على كثر ما قرأت من شعر الدعاء والتوبة والتضرُّع في الشعر العربي، لم أجد شعراً أكثر تأثيراً في النفس من تضرُّع الشعراء العصاة، وأقصد بهم الشعراء الذين جاهروا بالمعاصي في شعرهم - والسرائر لا يعلمها إلاّ الله - فهذا عمر الخيام على كثر ما نختلف معه، لا في السلوك والفكر فقط، بل في العقيدة، يطلب رحمة أرحم الراحمين ويتوسَّل بإيمانه الموحِّد لله، فيناجي ربه:
إن لم أكن أخلصت في طاعتك
فإنني أطمع في رحمتك
وإنما يشفع لي أنني
قد عشت لا أشرك في وحدتك
ويعترف بذنبه خاشعاً متذلِّلاً محسناً الظن بربه قائلاً:
يا من يحار الفهم في قدرتك
وتطلب النفس حمى طاعتك
أسكرني الاثم ولكنني
صحوت بالآمال في رحمتك
ومن يتأمّل تضرُّعات أبي نواس شاعر المجون الشهير، يعجب أشدّ العجب لحرارة العاطفة الإيمانية فيها - والسرائر لا يعلمها إلا الله - وقد ذاع صيت قصيدته التي نظّمها بعد أدائه فريضة الحج طمعاً في رحمة ربه الذي وسعت رحمته كلّ شيء:
لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك
ما خاب عبد سألك
أنت له حيث سلك
لولاك يا رب هلك
وقيل إنّ الأبيات التالية وُجدت تحت وسادته حين وفاته! وكلُّها تفيض بالأمل في رحمة الله والطّمع في عفوه:
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة
فلقد علمت بأنّ عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلاّ محسن
فبمن يلوذ ويستجير المجرم؟!
أدعوك ربي كما أمرت تضرعاً
فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم؟!
ما لي إليك وسيلة إلا الرجا
وجميل عفوك، ثم إني مسلم
ويتجلّى أحمد شوقي بين الشعراء المحدثين في تضرُّعاته لربه ويقف في قصيدة (إلى عرفات الله) ذليلاً خاشعاً راجياً رحمة ربه:
وقدمت أعذاري وذلِّي وخشيتي
وجئت بضعفي شافعاً وشكاتي
وأنت ولي العفو فامح بناصعٍ
من الصفح ما سودت من صفحات
ويتألَّق شوقي ضارعاً معترفاً متوسلاً بحق شفاعة نبيه صلى الله عليه وسلم فيقول في (نهج البردة):
إن جل ذنبي عن الغفران لي أمل
في الله يجعلني في خير معتصم
أُلقي رجائي إذا عز المجيرُ على
مفرج الكرب في الدارين والغمم
إذا خفضت جناح الذّلِ أسأله
عزّ الشفاعة لم أسأل سوى أُمم
وإن تقدم ذو تقوى بصالحةٍ
قدّمت بين يديه عبرة الندم
ويُلح شوقي - رحمه الله - على ربه - والله يحب العبد اللحوح - على طلب شفاعة من لا تقبل له شفاعة عند الله إلاّ هو، فيقدم أصدق شعره وأجمله لنبيه
صلى الله عليه وسلم لا يريد
مهراً لقصائده الحسان إلاّ شفاعة حسناء:
يا من له عزّ الشفاعة وحده
وهو المُنزَّه ما له شُفعاءُ
لي في مديحك يا رسول عرائسٌ
تُيِّمن فيك وشاقهنّ جلاءُ
هُنَّ الحسان فإن قبلت تكرُّما
فمهورهنّ شفاعة حسناءُ
ولا عجب أن يطمع هؤلاء الشعراء الذين جاهروا بالمعاصي في رحمة الله، وأن يعبِّروا عن توبتهم وعن أملهم في رحمة ربهم في قصائد خلَّدها التاريخ لما تفيض به من صدق الشعور وبداعة التذلُّل والتضرُّع مما يؤثر في نفس قارئها ويحرك مشاعره الإيمانية، وهذا في حد ذاته تعبير عن الإيمان وعن الثقة بالله والإنابة إليه، فرحمته وسعت كل شيء، وباب التوبة مفتوح للعبد حتى الغرغرة، وكيف لا يطمع هؤلاء في رحمة الله، والأمل فيه، وهو الذي فتح لهم هذا الباب على مصراعيه وخاطبهم صراحة بقوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } (53) سورة الزمر ..