إن في صولات التاريخ وجولاته، الحق السلبي دائمًا منهزم أمام الباطل الإيجابي، هذا ما تؤكده الأحداث عبر التاريخ. إلا أننا لم نقرأ تاريخًا وإذا قرأناه لا نعي، فالغرب ينظر إلينا على أننا همج عدوانين تحركنا الشهوة وأن الدين الاسلامي دين وثني. إنهم تحركوا ونحن اخترنا الركون في مربع الزمن نشاهد فقط، وديانة الصهاينة ديانة توحيدية كما جاء في كتاب الدكتور جاك شاهين، العرب في الموروث الشعبي الأمريكي، فهو كتاب يرصد عين الغرب حنيما تقع على الشرق، فالغرب عمومًا ينظر إلى الديانة التوحيدية، أنها منبع الحضارة في مقابل الديانات المحلية التي كانت سائدة في كنعان، التي ينظر إليها باعتبارها ديانات لا أخلاقية وفاسدة، وهذه فكرة متأصلة في الوعي والوجدان الغربي على جميع المستويات، فالشخص العادي ينشأ وهو يرتل منذ صغره التراتيل الدينيه حول إسرائيل، بيت لحم، والناصرة، وهذا الوجدان الذي تأصلت فيه هذه الأفكار العنصرية ،يعد إسكاتًا للحق الفلسطيني، وإضاعة حقه بالتاريخ. إن الحاخامات ينظرون إلى الوجدان على أنه الحافظ لهم، فالتأثير على الوجدان، وزرع أفكار مخالفة للحقيقة، أمر مهم، وجد خطير، فالوجدان عمومًا هو الذي يحفظ الإرث أكثر من العقل، لأن العقل في أحيان كثيرة عرضة إلي آفات توثر فيه مثل النسيان ،وغيرها من الآفات.
أما الوجدان، والضمير الجمعي للشعوب، هو الذي يحافظ على الإرث الثقافي والديني. إن اقتلاع فكرة من عقل أمر سهل، أما اقتلاع فكرة من وجدان أو ضمير أمر في غايه الصعوبة، والمتأمل للشخصية إليهودية بطول التاريخ يجدها تجيد فن الدعاية، التي توثر في الوجدان، وهذا ما يفعلونه من الأزل الأول، والآن أكثر حيث استخدام الميديا الإعلامية، وإفهام المتلقين على أنهم الضحايا، والعرب هم الجلادون فالغرب أعد نفسه قديمًا وحديثًا بناءًا على حلم صهيون وحكم العالم من فوق هذا الجبل، وتأصل هذا في وجدانه، وحينما ندرك ألاعبيهم فإنهم يغيرون دفة الأحداث إلى مكان آخر حتى يبعدوا الأنظار عنهم ،وتظل الصورة هي أنهم الضحايا ومن هنا نستطيع ان نقول بأن استئصال مثل هذه الافكار من الضمير الغربي شئ صعب. إنهم أرادوا قلب الحقائق فأنشاوا صندوق اكتشاف فلسطين عام 1865 وكان غرض هذا الصندوق هو البحث في آثار وجفرافيا وجيولوجيا تاريخ فلسطين الطبيعي لإثبات التراث الإنجيلي بطرق علمية وكان يهدف الوصول إلى الحقائق الدينية بطريقة علمية، وصدرت خرائط ومجلدات في الجيولوجيا والنبات والحيوان وغيرها.
عمد الصهاينة إلى إعطاء الأماكن أسماء عبرية وتوارتية على الأرض حتى تعطيهم حقًا تاريخيًا، وهذا ما يحدث الآن حنيما يحاول الإسرائيليون إعطاء شرعية لاحتلالهم قرى ومدن فلسطينية، وذلك من خلال إحلال أسماء عبرية على المنطقة من أجل إثبات الحق التاريخي لهم والواقع أننا إذا نظرنا إلي حقائق التاريخ نجد أن هذه الأماكن تحمل أسماء كنعانية قديمة، التي كانت سائدة قبل وأثناء الوجود العبراني في فلسطين القديمة، فالمسألة المطروحة التي تعرض جوهر الأمر ليست استخدام التاريخ لاثبات صحة مواقف سياسية معاصرة، وإنما هي دس قيم شكلتها التجارب المعاصرة والأماني الحديثة في قلب الباحث الأكاديمي الموضوعي، لأن البحث الموضوعي ينظر أحيانًا كثيرة إلى المعطى الزمني والمكاني والتاريخي للأشياء من خلال شواهد حاضرة شاخصه يقاس عليها، وإن دس هذه القيم يعد أمرًا خطيرًا، وصحيح أنه من المستحيل محو هذه القيم ولكنها قطعًا ممكنة.
يجب أن نفهم أن ذلك جزء من الخطاب التاريخي، ونظرًا لأن كتابة التاريخ هي عمل سياسي ،وعلى ذلك فإن المواقف والآراء السياسية تحدد برنامج البحث ،وتؤثر بشكل قوي في نتائج أبحاث المؤرخين وإن هذا البرنامج يؤدي إلي كتابة نصوص منحازة لأن السياسة تتحرك من آليه الواقع، وخلق واقع جديد ،ونظرًا لأن الواقع الجديد يكون مخالفَا في أحيان كثيرة إلي الواقع السابق عليه ومن هنا تتحدد آلية جديدة للكتابة التاريخية، يكون الواقع الجديد هو المحدد لها وهو يسعى دائمًا إلى امتلاك الماضي، لأن امتلاك الماضي جزء من سياسة الحاضر، ومن هنا ظهرت أهمية علم الآثار.
إن التاريخ التوراتي مهم جدًا لدولة إسرائيل الحديثة، لأن علم الآثار والتاريخ التوراتي هو المزيج الذي يستطعيون به إسكات الحق الفلسطينيين، ودائمًا الشعوب تبحث عن قومية، وحركات التاريخ القومي الإسرائيلي تحاول البحث عن جذور للقومية اليهودية، وهي في ذلك تستخدم البحث العلمي، شأنها شأن كل الشعوب الأوروبية وهي تريد تغذية القومية بمفردات قد يكون الخيال الذي صنعها، من أجل التماسك القومي، فمثلًا وحسب الأساطير والخرافات اليهودية فإن (مسادا) وهي آخر قلعه سقطت في يد الرومان أثناء التحرر اليهودي ضد الإمبراطورية الرومانية، وهي تقع على قمة صخرية عند البحر الميت، وقد حاصر الرومان القلعة من كل الجهات لعدة سنوات، ما دفع بالقائد اليهودي إلى إقناع رفاقه بالانتحار الجماعي بدلًا من الوقوع في الأسر في يد الرومان وتحولت (المسادا) إلي رمز القوة العسكرية المحاصرة، وقد ركز اليهود على هذه القصة وحولوها إلى أسطورة قومية وإلى رمز إلى وحدة الشعب اليهودي، وفي كل عام تقام الاحتفالات، ويحتفل الجيش الإسرائيلي ويردد تراتيل مثل: مسادا لن تسقط ثانية، وينظمون رحلات للسياح الأجانب.
مع العلم بأن الكثير من المورخين قالوا عنها إنها أسطورة لم تحدث وإنها خرافه، والمتأمل في الشخصية اليهودية من خلال كلام الدكتور جمال حمدان، يدرك على الفور أنها خرافة من نسيج الخيال اليهودي، لأن الشخصية اليهودية تعيش بقيم مادية وتقيس الكون بأبعاد مادية لا تكون لها أبدًا هذه القيم المعنوية مثل التضحية من أجل آخر أو التضحية بالنفس، لأن النفس هي الإله المعبود عند اليهود، والناظر إلى نشرات الأخبار يجد الجندي الإسرائيلي المدجج بالسلاح يهرع أمام طفل يحمل حجارة، ولكن يريدون أن يخلقوا قومية حتى لو كانت من نسيخ خيالهم، ويريدون نسج رموز لهذه القومية وعلى ذلك فإن بايدن الذي يحث على البحث عن المسادا، دائمًا يبحث عن الاستقلال السياسي لهذا الموقع من إضفاء صورة رمزية، على الدولة المنشأه حديثًا في وجه الصعوبات الضخمة لإسرائيل سواء من علماء الآثار أو الناس العاديين رمزًا للشجاعة، ونصبًا لأبطالنا القوميين هؤلاء الأبطال الذين اختاورا الموت على حياة العبودية المادية والمعنوية.
والمغزى السياسي من هذه القصة، هي أن المواقف السياسية والدينية هي التي توجه البحث التاريخي وتتحكم في نتائجه، وكان سقوط المسادا في نظر اليهود علامة لنهاية الثورة اليهودية ضد الهيمنة الرومانية وذلك في عهد (المسادا) أيام الرومان، أما الآن فالإسرائيليين تجسدت عندهم روح البطولة وحب الحرية، التي فقدها اليهود في المنفي وعلى ذلك فإن اتجاهات البحث العلمي الأوروبية قبل سنه 1948 وفيما بعد ذلك كانت تبحث عن الجذور القومية في التاريخ التوراتي اليهودي القديم، وعلى ذلك أعيدت فرض الدراسات التوراتية من جديد على الساحة، من أجل كسب حق تاريخي وحتى أن الاستيطان اليهودي في فلسطين تم ربطه بالقديم، من خلال قراءة في العصر البرونزي المتأخر، وأوائل العصر الحديدي.
المغزي الحقيقي من ذلك الربط بين الماضي السحيق الموغل في القدم، وبين الحاضر الشاخص، هو خلق قومية وواقع معاش يوثرون به على وجدان اليهود الجدد من التمسك بالأرض وعدم التفريط فيها، وعلى ذلك قالها (بن جوريون) إن المستوطنات هي الضمانة الأولى لبقاء إسرائيل، فهي في البداية في وجدانهم من العصور السحيقة خلقت لتعيش إلي الأبد، لأنها قومية وعلى ذلك نجد (حاييم وايزمن) الذي أدرك الفائدة التي يحصل عليها من خلال إعلان القومية، ولفظة القومية لها مدلول السحر على اليهود في بلدان كثيرة، حيث أنها نداء التاريخ إليهم ليعودوا إلي وطنهم وعلى ذلك، اقتنع المسؤولون الإنجليزبإدخال تعيبر الوطن القومي من خلال وعد بلفور 1917 وكان يقصد من ذلك الربط التاريخي بين الماضي والحاضر، يربط بين دولة إسرائيل الحديثة وإسرائيل القديمة وهذا التأصيل القومي التاريخي يعطي شرعية للدول الحديثة وإسرائيل القديمة، وهذا التأصيل التاريخي يعطي شرعية الدولة القديمة التي كانت بدايتها رحم التوراة، وأما في هذه الأونة الحديثة فإن نشأتها سياسية، من أجل اعتبارات دولية والسيطرة والهيمنة على المنطقة من خلال إنشاء هذه الدولة، التي يأتي سكانها من كل أقطار الأرض، من أجل فرض واقع جديد يغير من التركيبة الجغرافية للمنطقة، ونحن كالعادة شغلتنا حكايات ألف ليلة وليلة.