أمس كان التائه هو اليهودي، ولكنه وجد مكانا يحط فيه رحله ويحصن موقعه، لكن العربي اختلطت عليه الأمور، وبدا كأنه ضيع عالمه، تراثه، مستقبله، ثم ارتحل تائها بين الوهم والحقيقه.
هكذا بدأ محمد حسين هيكل، مقدمة كتابه "العربي التائه".
العربي لم يدرك أن الأمم لا تقف في صف واحد طويل، بعضها متخلف والبعض الآخر متقدم، ولكن التاريخ الإنساني على عكس ذلك تماما، فإنه ليس سلما تصعد فيه الأمم درجات، من درجة إلى درجة أعلى.
بل إن قصة التطور والتقدم، وأخذ مكان متحصن أكثر ثراءً، وتعقيدا، فيها تحولات إلى الأفضل وإلى الأسوأ، والواقع التاريخي يقول إن هناك أمما غنية، وأخرى فقيرة، وهناك أمم ناهضة، وأمم خاملة، لكن هذا لا يعني أن الأولى في قمة السلم، والأخرى في أسفله.
فإذا كان للأمم الخاملة أن تنهض، فلا بد أن تدرك أن النهوض ليس اللحاق بالغير، بل يعني أولا اليقظة بعد السبات، والحركة بعد خمول، والإبداع بدلا من التلقيد، والتعبير الحر عن النفس بدلا من الانقياد وراء الغير.
وإذا فعلت الأمم الخاملة التائهة ذلك، فلا بد أن تختار السياسة التي تمشي عليها، تلك السياسة التي تنظر إلى الأشياء في الكليات والعموم، والتكامل، والتماسك، ويستوي في ذلك النظر إلى الإنسان الفرد، أو إلى المجتمع أو العالم بأسره.
تحاول البحث عن عناصر التكامل، والتكافل، والتضامن في الحياة، وتبحث بعد ذلك عن التوزان، الذي هو الغاية الأخيرة من كل أنواع النشاط الاجتماعي، والعلاقات الإنسانية.
كما أن هيكل في كتابه "جيوش وعروش"، وفي المقدمة أيضا أشار إلى الداء نفسه، وأرشد إلى الدواء ذاته، فهو يسأل: لماذا اهتدى اليهودي إلى المكان وتاه العربي عن المكان؟ اليهودي عاش نصفه مع الوعد، والنصف الآخر مع تحقيق الوعد.
ثم تتطرق قائلا: وتلك طبيعة الأشياء، بين طرف يعرف ما يريد ويصمم على بلوغه، وطرف ينتبه متأخرا إلى ضروراته، ويهرع للحافظ على الحد الأدنى منه.
لماذا نام العربي وتاه وأفاق اليهودي واهتدى؟!
لأن اليهودي لم ينس التاريخ، فهو يعرف أن عِبر التاريخ ودورسه هي التي تحيي الأمم، أما الأمم التي تنسى تاريخها فهي التي تموت، لأن التذكر يقظة، واليقظة وعي، والوعي الحقيقي يؤدي دوما إلى التقدم والاذرهار، وتتحول فيه النوايا إلى أفعال.
ويضيف هيكل مؤكدا أن المعادلة التقدمية، هي حينما يعانق الفعل العقل، والإرادة، فان ذلك يساوي الكثير، كما أن الفكر الاستراتيجي القادر على خلق هذه المعادلة ليس اختراعا، لكنه ثوابت تصنعها الجغرافيا، حين تعانق التاريخ، وغيرها من الثوابت.
والفكر الاستراتيجي هو الذي يعيد هذه الصياغه، ولكن هناك يقظة في فكر، ونوم في فكر آخر، فعقلية الغربي منظمة ومصممة، وعقلية العربي قدريه مستضعفة.
المسيرة الأوروبية نحو الوحدة عام ١٩٦٠، وصلت إلى البيان المتكامل الكبير ـ الاتحاد الأوروبي ـ الذي وإن أصابه التصدع حاليا، لكنه مازال قائما.
وعلى الجانب بدأت الوحدة العربية عام ١٩٤٥، ولم تصل إلى شيء، هم تناولوا الموضوع بعقلانية، وقانون الضروره، ونحن كانت العاطفة مسيطرة علينا.
لا ننكر دور العاطفة في بناء الأمم، فهي من العناصر المحفزة، لكن العاطفة التي نقصدها هي النقيض من ذلك، هي التي تظهر فيها الفردية ورواسب العُقد.
ونعود الي السؤال من جديد، لماذا نام العربي وتاه واستيقظ اليهودي واهتدى؟!
المغامرة من غير رؤية وقراءة للأحداث أكثر ما ينتج الخطأ، فللأحداث نسيج عضوي، واليهودي كان يقرأ دائما الواقع بكل جزئياته، ويعرف مركز الثقل ويوجه أنظاره إليه.
الحلم الصهيوني أعد نفسه لإقامة دولة في فلسطين، على أساس "وعد بلفور"، وبعد الحرب العالمية الثانية استطاع اجتذاب تأييد القوة البازعة ـ أمريكا ـ وكل ما فعلته الإمبراطورية الراحلة إنجلترا، هي إعطاء الوعد، وعلى الإمبراطورية الجديدة مراعاة تحقيق الوعد، وتساعد على قيام الدولة اليهودية.
أما على الجانب الآخر فالصراع العربي للحصول على الإرث والحصول على الخلافة التي رفضها أتاتورك.
وعلى الجانب الآخر حلم قانون الضرورة، يحكم تعانق الحلم الإمبراطوري الجديد لأمريكا، والحلم الصهيوني الوحيد الوليد، هو خلق حاجز بين الغرب والعرب، مثلما قال هيكل.
إذا أردنا أن نحدث إطلاله الواقع الماثل أمام أعيننا، فإننا نجد أن هناك صراعا وتنافسا كبيرا في الحياة، فهناك فاعلون مشاركون في الأحداث وتطورها، وهناك من اهتدى إلى مكان وزمان.
أما الفريق الأول فيسعى لتشكيل المستقبل بأقرب صوره، لما يرغب فيه.
وأما الفريق الآخر فينظر إلى شيء لا يمكن بالمنطق إلا أن يكون غير سار، لأنه من صنع الآخرين، والقضية المحورية التي تخلق التوهان، هي انتظار القدر.
إن القدر قادم لا محالة، لأنه من الأمور التي لا سلطان لنا معها، ولكن اليقظة مع الانتظار هي التي تخلق المكان والزمان.
وإذا أراد التائه أن يعود إلى مكانه الأصلي والأصيل، فإن عليه أن يدرك أن التخطيط الجيد، هو ذلك التخطيط الذي يهدف إلى صالح الدولة، وفي الوقت ذاته تنعكس آثاره الطيبة على المجتمع كله، دون استثناء.
التخطيط الجيد يعتمد على البيانات الصادقة، والإمكانات المتاحة للتنبؤ بمستقبل مرحلي، أو غير مرحلي، طويل الأمد أو قصيره.
نجاح الخطة يعتمد دائما على وضوح الهدف، ومعرفة الصعوبات والمشكلات.
وتحضرني كلمة المفكر الإسلامي الشيخ محمد الغزالي، إذ يقول: لكي تعود الأمه إلي رفعتها، ولكي تحظى بالفوز بعد الخسارة، لا بد أن تفتش في أسباب مصابها، ثم تمهد للنتائج بالأعمال التي تثمر.