الأحد 07 يوليو 2024
الرئيسية عاجل القائمة البحث

(القاهرة - 1962)
كانت الساعة قد اقتربت من الثامنة صباحاً عندما دلف إلى مكتب سكرتارية رئيس تحرير الأهرام رجل متقدم فى العمر، يرتدى بدلته السوداء، ويضع قرنفلة فى عروة سترته، وفوق رأسه طربوشه التاريخي ثم قال: 
"نهاركم سعيد يا سادة"!
رد البعض بامتعاض والبعض الآخر لم يرد! 
فيما وقفت نوال المحلاوي - مديرة المكتب - وهى تقول بابتسامة:
"صباح النور" 
ثم أردفت بصوت هادئ:
"خير يا حضرة"!
-"أريد مقابلة الأستاذ هيكل"؟
هل فيه ميعاد سابق ؟
 - "لا سابق ولا.. لاحق"!
وقبل أن تنطق قال:
"من فضلك أبلغى الأستاذ هيكل أننى موجود"
ومَنْ حضرتك؟
- فرغلى باشا" ثم أكد على اسمه ولقبه قائلاً:" محمد أحمد فرغلى باشا.
وقف أحد الحضور منتبهاً - ودون أن يفصح عن اسمه - وقال مستفسراً: 
فرغلى باشا "ملك القطن"!؟
- هز رأسه بأسى قائلاً:
" نعم..هو ذات نفسه"!
                      °°°
( المكتب - بعد 5 دقائق )
بدهشة قامت نوال المحلاوى من مقعدها ودخلت إلى الأستاذ تبلغه بطلب الزائر الذى جاء بدون موعد سابق!
رد هيكل قائلاً:
"فرغلى باشا بنفسه..معقولة؟!
" قال ذلك وهو يأمرها:  
"يدخل فوراً"..!
- اتفضل يا باشا"
                       °°°
( المكتب - بعد 7 دقائق)
إلى مكتبها عادت بعدما فوجئت بالاستقبال الحار من هيكل للرجل وهو - أي هيكل - الذى يعشق النظام، والتنظيم، واحترام المواعيد - لكنه مع فرغلى باشا قام على الفور واستقبله بنفسه رغم وجود عدد من الشخصيات العامة - كان من بينهم  محمد أبو نصير وزير العدل - فى انتظار الدخول.
                      °°°
( مكتب هيكل - بعد 10 دقائق)

- "اتفضل يا باشا ..خطوة عزيزة"
- عفواً ...يا أستاذ هيكل أنني جئت بدون سابق ميعاد!
- لا تعتذر يا باشا...وتستطيع أن تأتي فى أي وقت باستثناء يوم الثلاثاء لأننى أكتب فيه مقالى الأسبوعى ثم بعد تنهيدة قال:
" خير يا باشا"
رد:"الحقيقة جئت إليك ليصل صوتى إلى الرئيس جمال عبد الناصر الذى اعتقد أنه" لا يصل إليه الكثير من المآسي التى حدثت فى (التأميم والحراسات) ولا يعلم عن معظمها أى شىء". 
هز هيكل رأسه بتركيز ثم قال:
"أكمل يا باشا"
- رد:" أنا مثلاً - وأنت تعلم ترحيبي وتدعيمي للثورة ودفاعى عنها - تم تأميم ممتلكاتي ووضعها تحت الحراسة حتى أن ابنتي - ابنة فرغلى باشا ملك القطن - لا تجد ما تعالج به طفلتها الصغيرة"!

قال ذلك ثم سكت بعدما رن هاتف أرضي.
رد: "صباح الخير يا ريس" فى هذا اللحظة أشار الباشا لهيكل ليغادر مكانه بعدما توقع أن الرئيس شخصياً هو المتحدث. 
رفض هيكل - وهو يواصل كلامه مع الرئيس - مغادرته وأشار له بالجلوس حتى ينتهى من حديثه.

                      °°°
( المكتب - بعد 50 دقيقة )
الآن انتهى الحديث بين الرئيس وهيكل ثم وضع السماعة وقال: 
"أكمل يا باشا...كنت تقول إن ابنتك لا تجد ثمن دواء طفلتها( قالها بتأثر واضح وهو يشعل سيجاره"!
قال الباشا:" أننى من مواليد عام 1901 فى الإسكندرية ومن أصول صعيدية - محافظة أسيوط - جنوب القاهرة. 
وكانت أسرتى تعمل فى الزراعة والتجارة والصناعة ووصلت ثروة والدى - 30 ألف جنيه سنة 1920 - وصنعنا أنفسنا بعرق جبينا، وكانت كل أعمالنا فى خدمة وصالح الوطن، وعندما مات أبي منتصف الثلاثينيات توليت أنا مكانه العمل، ووسعت نشاطنا الاقتصادي فى تجارة وتصدير محصول القطن حتى أن شركتى كانت تصدر ما نسبته 15% من ناتج القطن المصري وعندما قامت الثورة ساندتها من أجل مبادئ العدالة الاجتماعية التى كنت أطالب بها حتى فى وسط طبقة الإقطاعيين التى أنتمى إليها.  
وبالفعل التقيت بالرئيس عبد الناصر فى بداية الثورة وتكررت لقاءاتى معه خلال العشر سنوات الماضية التى كنت أراها قمة سنوات الصمود، والصعود، والتقدم، والازدهار فى عمر الثورة. 
وكان من الممكن أن تكون مرحلة الستينيات خطوة أخرى إلى الأمام لكن للأسف شابها أخطاء فادحة وكنت - ومازلت " معجباَ بشخصية الرئيس عبد الناصر، بل وشعرت - من عدة لقاءات معه - بأنه يمثل رمزاَ للكرامة المصرية، والاعتزاز، والاعتداد بالنفس، وبالوطنية المصرية التى كان قد ضعف الإحساس بها فى ظل الحكم الملكى..
( "فرغلى باشا كان بين من أضيروا بالقرارات الاشتراكية إلا أنه حاول أن يرتفع فوق مصالحه الشخصية"ويسجل شهادته عن ثورة يوليو وشخصياتها التى عايشها وتعامل معها بما لها وما عليها)!
ثم واصل الباشا كلامه:               
"وكل أسرة الرئيس أصدقاء لى خاصة شقيقه( عز العرب) الذى يعيش بيننا فى الإسكندرية فقيراً ولم يحاول أن يستغل اسم الرئيس  فى تحقيق منافع خاصة به" (ظل مديراَ لتحرير صحيفة الجمهورية - فى مكتب الإسكندرية - حتى وافاه الأجل) 
وكنت - ومازلت - على قناعة تامة ( بإن سلوك الملك فاروق فى السنوات الخمس الأخيرة من فترة الملكية من الأسباب التى أدت إلى قيام الثورة) 
- "عظيم يا باشا...أنت حتى هذه اللحظة لم تقل لى أين المشكلة"
( قالها هيكل وهو يقدم له فنجان القهوة الذى جاء به ساعى مكتبه قبل قليل)
                      °°°
( المكتب - بعد 80 دقيقة )

واصل الباشا كلامه:" من الأخطاء الفادحة للثورة إن ( التأميم والحراسات حدثت بأسلوب انتقامى) وهو ما جعل أسرتى وبناتى تقع تحت أغلال الحراسات حتى أن شركاتى قدرت بمبلغ مليونين من الجنيهات - كان ذلك عام 1961 - رغم أن قيمتها الحقيقية كانت تصل إلى 8 ملايين جنيه" ثم سكت برهة من الوقت التقط فيها الأنفاس ويرتشف فنجان القهوة ثم قال:
" تصور.. عندما فُرضت الحراسة على أموالى، وصلنى شيك من إدارة الحراسات بمبلغ ( جنيهان ونصف) كمرتب شهرى"!

- "كم يا باشا"؟ سأله هيكل فى دهشة!
"كما سمعت يا أستاذ هيكل( جنيهان ونصف )
" امتعض وجه هيكل وظهر الغضب على ملامحه فيما واصل كلامه:
"وفوق هذا كله ممنوع من العمل"!
استمع هيكل بكل جوارحه للباشا ثم قال:
"أقدر شعورك وأعرف قسوة البقاء بلا عمل وأقدر دورك فى الحياة الاقتصادية ودورك فى التعاون مع الثورة ثم قال بحدة:"وسوف أعاونك وأساعدك بقدر ما أستطيع لثقتى فى عدالة قضيتك"
بعد دقائق تبادلا فيها الذكريات والحكايات اصطحبه حتى الباب وجعل وداعه له حاراً ثم قال:            "مكتبي مفتوح وتستطيع زيارتى فى أي وقت تشاء، وفى أية ساعة تشاء"!

                       °°°
( أمام مبنى الأهرام - بعد 120 دقيقة)
جلس فرغلى باشا فى مقعده بجوار سكرتيره - وسائقه فى نفس الوقت -  وهو فى حالة مختلفة تماماَ عن حالته التى كان عليها قبل صعوده للأهرام.

- سأله السكرتير:" خير يا باشا...أراك سعيدا"
" الحمد لله...كان اللقاء مثمراً"
- مع هيكل ( قالها السائق بدهشة)؟!
- شوف يا سالم أفندى فى تصوري أن الأستاذ هيكل يلعب - بالنسبة للرئيس عبد الناصر - دور الخبير بطبيعة البحار الذي يقف بجوار الربان على سطح سفينة تحيطها الأنواء والأمواج العاتية.
- هيكل؟!
- نعم..ولقد وقف - ومازال - بجوار الرئيس هادىء الأعصاب، ورابط الجأش. وفى تصوري أنه أكفأ من أحاطوا بالرئيس عبد الناصر منذ قيام الثورة".
- هز سكرتيره رأسه ممتعطاً، فيما واصل فرغلى باشا قوله: "ومن الأشياء التى تؤخذ على الأستاذ هيكل قول البعض إنه يشارك فى معظم السياسات الخاطئة التى حدثت، وإنى أعتقد مخلصاً أن العكس هو الصحيح..
فهو شارك بقدر كبير فى تصحيح مسار سياسات خاطئة - بل إنه يعُد عاملاً مخففاَ للإجراءات الاستثنائية التى حدثت وتحدث. 
وأنت تري كيف قرر يقف بجانبي- وأعرف أنه فعل ذلك مع غيري - دون انتظار كلمة شكر من أحد. وكذلك وقف بجانب الكثيرين ممن أضيروا بالثورة. 
ولم تكن مساعدته لى - أو لغيرى - مخالفة للقانون بل كانت محاولة منه لأن يسود قانون الرحمة والعدل.

                     °°°
( طريق القاهرة - الإسكندرية )
كانت السيارة قد انتهت من شارع الهرم وتخطت ميدان الرماية - أول الطريق الصحراوى - عندما قال سالم:
"يقال يا باشا أن الرئيس يطلع على مقاله الأسبوعى( بصراحة).. 
قبل نشره.. أليس كذلك"؟
- " سألته نفس سؤالك وقال:" هذا ليس صحيحاَ على الإطلاق"
-  لكن هناك بين الصحفيين وبعض الساسة فى السلطة من يضمرون الكراهية له؟
- طبيعى أن يضمروا الكراهية أو حتى الشر له، فهذا أمر إنسانى وذلك بسبب صعوده، ونجاحه، وقربه، وثقة عبد الناصر فيه".
رد سالم:" ومن هم الذين كانوا يضمرون الكراهية له؟
- فى دوائر السلطة:"
على صبري..بالطبع"!
- وفى الصحافة:      
 - "متعدش"!
 حمد لله على السلامة يا باشا
وصلنا الإسكندرية!
                        °°°
( المنشية - شارع فرغلى)

فى صباح اليوم التالى رن هاتف منزل الباشا وجاء صوت هيكل على الناحية الأخرى قائلاً:
" الرئيس انزعج مما حكيته له عنك وأمر بتعيينك مستشارا لمؤسسة القطن بمرتب يعادل مرتب رئيس مجلس الإدارة"
- متشكر يا أستاذ هيكل..أرجوك تبلغ تحياتى للرئيس.
ومرت أيام ولم ينفذ القرار بعدما استطاعت خفافيش الظلام فى دوائر السلطة عرقلة ذلك - وكان يقف وراء هذا المشير عبد الحكيم عامر - وفى النهاية قَبِلَ فرغلى باشا العمل فى المؤسسة بمبلغ ضئيل جداً يسىء إلى نظام الحكم بأكثر مما يسىء إلى الباشا.
                        °°°
( الإسكندرية - 1987)

وبعد نكسة 67 وموت عبد الحكيم عامر صدر قرار جمهوري جديد بتعينه مستشاراً لمؤسسة القطن بمرتب وبدلات رؤساء مجالس الإدارات وظل فرغلى باشا يؤدى دوره فى خدمة اقتصاد الوطن الذي - حسب قوله - عاش على ترابه، وعرف على أرضه معاني الأمل والنجاح والعرق بكل صدق وإخلاص، بعدما عاش حياته الطويلة ورحلة كفاحه العظيمة - كرجل أعمال - يحقق الآمال والأحلام، ويتجاوز الآلام والأحزان، بحكمة، ومنهج، ومبدأ.
وكانت (حكمة الباشا) التى تعلمها من الحياة والزمن، ومن النجاح والفشل، ومن الملكية والجمهورية، ومن الليبرالية والديكتاتورية، ومن الغنى والفقر ومن الظلم والعدل ومن المكسب والخسارة. تقول:
["انس.. وسامح"]!

لأنك عندما تستطيع ذلك، وتفعل ذلك، تكون أحسن الناس، وأعدل الناس، وأنجح الناس، وأصدق الناس، فى حكمك على التاريخ، وفى حكمك على الناس.

خيري حسن

° الأحداث حقيقية.. والسيناريو من خيال المؤلف.

°  المصادر: مذكرات فرغلى باشا:(عشت حياتى بين هؤلاء )

الطبعة الثانية - 1984 الأهرام للترجمة والنشر

° الصورة: الرئيس.. والباشا..وهيكل

تم نسخ الرابط