منذ ثلاثة وثلاثين عاما، وتحديدا في الثلاثين من أكتوبر عام ٢٠٠٠، كان جيش الاحتلال الإسرائيلي يسرح ويمرح في أزقة غزة وشوراعها، يتفحص جنوده عيون الشباب لعلهم يكتشفون رفضا أو تذمرا أو احتجاجا.
كانوا يفتشو حقائب التلاميذ، بحثا عن حجارة مخبأة بها، أو في الجيوب.
ومن بعيد لمحت عينا جندي اسرائيلي طفلا فلسطينيا يهم برمي حجر باتجاه الجنود، فصرخ الجندي على الطفل طالبا منه أن يضع الحجر من يديه، وأن يرفعهما فوق رأسه.
أصيب الطفل بالذعر، وارتبك، ثم لجأ إلى أبيه، وحينها أطلق الجندي طلقات سلاحه بغزارة تجاه الطفل وأبيه، صارخا فيهما لكي يسلما نفسيهما.
أحاط الرعب بالابن وأبيه، وحاولا الاحتماء بستار بسيط، ليتركا للجندي الصهويني هوايته في إطلاق النار دون رقيب أو حسيب. لكن الرصاصات اقتربت منهما أكثر فأكثر، ومع كل صرخة خوف واسترحام من الأب، ليحمي ابنه من مصير بدا محتوما، كان الجندي يرفع صوته بالضحك كأنه يمارس إحدى ألعاب الخيال! الجندي السادي وفئة اخرى من زملائه على شاكلته، كانوا يستمتعون بهذا المشهد، حتى إذا أفرغوا ضحكاتهم، أخذ الجندي نفسا عميقا عازما على القتل، ثم صوب سلاحه هذه المرة بإحكام وأطلق رصاصة أخيرة، حصدت روح الطفل بين يدي أبيه.
وعاد الجنود يضحكون على مشهد الابن الذي فاضت روحه الطاهرة، وأبيه الذي أصابته الصدمة بلوعة ظهر جلية على ملامحه.
ليس هذا مشهد سينمائيا، وإنما هو ما جرى مع الطفل محمد الدرة، الذي خلدت الوحشية الإسرائيلية اسمه، بعد أن مات وهو بعد لم يتجاوز أحد عشر عاما.
وتحول محمد الدرة ووالده إلى أيقونه كفاح، وسار رفقاء دربه على طريق الملحمة، ليستبدلوا الحجارة بصواريخ ومسيرات ومدافع، اصطلى بها جيش الاحتلال يوم 7 أكتوبر، في ضربة أذلت غرور وجبروت نتنياهو وأعوانه.
ولم يكتف رفقاء درب الدرة الصغير، بطرد جنود الاحتلال خارج غزة، بل لاحقوهم وأهانوهم، وأعملوا فيهم قتلا وتدميرا، ثأرا لدماء الطفل محمد الدرة، وغيره من أطفال فلسطين.
ورغم انطلاق آلة القتل الإسرائيلية، دون عقل أو ضمير، لتحصد كل شيء في طريقها، أعادت غزة رسم خريطة العالم بريشتها وألوانها، ليس لجمال شواطئها، ولكن لأنها أنتجت جيلا من سلالة عمر ما كنا نظن يوما أن يتكرر، أنتجت طائفة لم تحترف يوما فنون المعارك الكلامية، ولا الخطب الرنانة، أبطالا لديهم شموخ وشهامة، جيلا يتقاسم الوجع والألم ليصنع الأمل والنصر.