أمطار ورياح وعواصف وليل يرخي بأستاره السوداء على قرية بسيطة، في المكان والمكانة، أغلب أهلها من فقراء الفلاحين، في ساعة متأخرة من الليل، في يوم من عام ١٨٩٨، كانت زوجة "إبراهيم البلتاجي"، المقيم بقرية طماي الزهايزة، مركز السنبلاوين، تعاني آلام المخاض لمولود جديد، سيقذف به الغيب إلى الدنيا، ويظل في جانب من المنزل الطيني، حائرا محيرا من أعباء فم جديد، وهو الذي يكسب في الشهر "عشرين قرشا"، كيف يطعم ذلك القادم من عالم الغيب؟ فكانت أم كلثوم إبراهيم البلتاجي، التي ولدت مع تباشير الصباح، عبئا إضافيا عليه، إلا أن القدر كان يخفي عنه شيئا وتاريخا خالدا.
ظل يستدعي كل تلك الذكريات، وهو ذاهب معها إلى القاهرة مدينة المجد، يستدعي رحيقا من الذكريات، وهو يركب القطار فكيف كان ينظر إلى ثومة، على أنها عبء إضافي لا يستطيع عليه، إلا أنها أصبحت مصدرا للسعادة له، ففي الساعة العاشرة مساء كل ليلة خميس من أول الشهر، وكل شهر، يحدث شيء غريب، حيث يهدأ الضجيج في شوراع القاهرة، والرباط ، وبغداد، وكل العواصم العربية، حيث تشدو القيثارة بألحان سماوية عذبة، تحيي وجدانا قد أجدب، تلك القيثارة التي تعلمت من روح مصر كلها، تربت على ذوق الفلاحين الذين طحنتهم الأيام، وكذلك في الحواري والأجران.
تعلمت من الصورة البسيطة الصادقة، كانت في قرية تحدثنا عنها بأن كل بيوتها من طين، وأعلى منزل فيها مكون من طابقين، وأثرى غني في القرية يملك حنطورا، وبدأت تذهب إلى كل القرى، تشدو بالمدائح المحمدية، وينتظرها على شوق كل أبناء الريف في محافظة الدقهلية، إلا أننا نترك أم كلثوم تحدثنا عن نفسها حينما نصح والدها، الموسيقار أبو العلا محمد بأن تذهب إلى القاهرة، ففيها المجد الذي ينتظرها.
ذهبت أم كلثوم وكلها شوق جارف لتلك المدينة، باتت ليلتها ساهرة ساهدة، تنتظر الفجر بترقب وشغف للقاهرة العامرة، وحينما نزلت إلى ميدان باب الحديد، ذلك الذي تلمح فيه كل وجوه مصر، ففيه ذلك الصعيدي الصلب، والفلاح الوديع المسالم، كان معها خمسة عشر جنيها، هو كل ثروتها في الحياة، فاصابها ما يصيب أي فلاح طيب ساذج، ينزل المدينة، فيحتال عليه المحتالون، ويسرقونه، بطريقة أو أخرى، ويستغلون طيبة وجهه وروحه البكر.
وظلت تلك الواقعة عالقه بروح أم كلثوم لفترة طويلة من الزمن، وكانت تضحك بكل شدقيها، حينما تشاهد مسرحية كشكش بيه، ذلك الفلاح الهابط إلى القاهرة، ومعه فلوس المحصول، يهبط عليه المحتالون لبيبعوا له الهواء، وأحست أم كلثوم بغربة وجدانية قاتلة، إلا أن أحدهم بدد تلك الغربة، ألا وهو الشيخ أبو العلا محمد، ولكن تتجدد تلك الغربة برحيله في ١٩٢٧، مما جعلها تخرج عن العادات والتقاليد والمألوف في ذلك العصر، وتسير خلف نعشه في جنازته، إلا أن أم كلثوم فعلتها من أجل أحد مرافئ الأمان لها في تلك المدنية الصماء، فهو الذي علمها كيف تعيش اللحن وتعايشه، أحيانا لعام كامل، حتى يخرج سليما أنيقا متأنقا، هذا بالنسبة للحن، وكذلك الكلمات.
سرت شائعة في بداية الأربعينيات بأن الشيخ محمد رفعت أحد أهم أعلام القراء في مصر، طلب من الإذاعه المصرية أن تساويه أجرا بأم كلثوم، إلا إن الشيح نفى في بيان هذا الأمر، إيمانا منه بأن صوت أم كلثوم من أعظم الأصوات.
هكذا كانت أم كلثوم درة عصرها فنا ومواقف وطنية وسياسية، ورحلت بعد اكتحلت عينيها بنصر أكتوبر، الذي بذلت جهودا للتبرع لدفع المجهود الحربي، رحلت في عام ١٩٧٥. واليوم في ذكري ميلاد أم كلثوم الـ١٢٥، وبيتها في قرية طماي الزهايرة، بدلا من أن يتحول إلى متحف، هو الآن انقاض، وجدران تتهاوى، ذكريات وذكرى أم كلثوم تأتي على تلك الجدران التي تتهاوي..