الجمعة 04 أكتوبر 2024
الرئيسية عاجل القائمة البحث

 

كان غاية حلمه أن يقود مسيرة أخلاقية، يؤوي فيها لاجئا أو يشفي بها مريضا، أو يؤمّن بها ملهوفا.. كان يريد فرصة واحدة لأحاسيسه أن ترى النور، لأنها النور الذي يبدد ظلام العالم المملوء بالشرور والأحقاد. 

هكذا كان النبيل الراقي الشاعر محمد عبد المنعم الغرباوي، الذي كانت أول معرفتي به في إحدى المكتبات بقريتي، التي كانت تقوم بتصوير إحدى رسائل الماجستير، التي تناولت شعره بوصفه آخر شعراء مدرسة أبوللو. 

وقرأت بعض من أجزائها إلا أنني على الفور وجدت قلمي يكتب عنه، وعن الرقي في إبداعه، فذهبت إليه في منزله متوجسا خيفة مما كتبت، إلا أنه على الفور مسح على ظهري في حنان الآباء النبلاء، وصارت بينا صداقة قوية كان هو في عقده التاسع. 

وأنا تقريبا أتخطى عقدي الثاني بسنوات قليلة، واستمرت الصداقة تسعة أشهر ثم انتهت بوفاته، لكنها كانت بالنسبة لي عمرا كبيرا، ولقد تعلمت منه الكثير والكثير، تعلمت منه الثبات على المبدأ.

وكانت سعادتي بلقائه عصر كل يوم.. حينما كنت أذهب إليه ونجلس في منزله، الذي كان كشخصه رائعا جميلا.. كنت اقرأ له الجرائد، لضعف بصره، وسمعت منه تاريخ قريتي، تاريخ الصعود والهبوط الذي تحكمه قوانين التاريخ.

تكلم عن نبل الأقدمين، وصارت بينا صداقة لا تعرف التناسب في الأعمار، لأن الصداقة لا يحكمها تناسب الأعمار، ولكن تآلف الأرواح هو الأقوى. 

قص عليّ الكثير من حكايات عمره، الذي كان كله كفاحا أخلاقيا من أجل أن يسود العدل والإخاء، وأذكر واقعة شهيرة حدثت في قريتنا عام 1947، وهي أنه اجتاح وباء الكوليرا القرية، فماذا يفعل الشاعر المرهف الإحساس؟ سار على قدمه متنقلا بين شوارع القرية وأزقتها، مواسيا للجميع وراعيا للمرضى، إلا أن شيئا ما هاله هو أن أحد الأطباء الأثرياء جاء إلى أبناء عائلته بالأمصال، وترك فقراء القرية، فأرسل هو برقية له هذا نصها: "السيد الدكتور/... بلدتك المنكوبة بعقوق الأبناء.. تحترق بالوباء.. فأين أنت يا ابن شها البكر"، فجاء الطبيب الذي استيقظت إنسانيته إلى القرية، ليعالج الفقراء ويسهم في القضاء على الوباء. 

وأسرد واقعة أخرى، حينها كان رئيسا لمجلس قروي بلقاس، خامس دميانة، حنيما اختصم عنده مالك أرض وأجير، فساوى بينهما في عدل المجلس، الأمر الذي امتعض له الإقطاعي، إلا أنه لقنه درسا في المساواة بين الناس، فكان لذلك بالغ الأثر في حب أهل القرية له، التي ذهبت إليها لزيارة دير القديسة دميانة عام 2007، وقلت لهم إنني من قرية الغرباوي، فوجدت عبارات الثناء والترحم عليه، من مسيحيي القرية ومسلميها. 

إنه الشاعر النبيل محمد عبد المنعم الغرباوي، الذي ولد في الحادي والثلاثين من يوليو عام 1912، في قرية شها مركز المنصورة، بالدقهلية، وتوفي بها في الحادي عشر من ديسمبر عام 2002، عن عمر يناهز التسعين عاما، قضاها في السمو بالمجتمع والناس، فازداد انغماسا في حياة الريف، في كل رحلته الحياتية.

كان مثالا راقيا للشاعر، الذي يطلق أفكارا مفيدة للناس، أو ينجز أعمالا مفيدة للمجتمع، ولا ينتظر جزاءً من أحد. 
يهتدي بهدي أفكاره وأعماله، لكنه المثقف الذي يحاول أن يحقق أفكاره ومبادئه وسط الناس، ليخدمهم وينفعهم، الغرباوي كانت له نفس رومانسية تحتوي الكون من ناحية، كما تشعر بأنها مركز هذا الكون من ناحية أخرى. 

وهي في طرفها المحتوي للكون تنشد ذلك الحلم، بأن يكون الكل جسدا واحدا، كما أنها في طرفها الذي تستشعر به أنها مركز الكون تطمع في حضن المجموع، فتفاجئه أشواك ذلك الحضن، فتجعل هذه الأشواك الغرباوي يهرع إلى واحته المجهولة، ومن واحته المجهولة إلى حضن الطبيعة البكر، فيمشي في الحقول، ويرى شجرة القطن، وقد أينع ثمرها، فهو ينظر إليها وكأنها تجسد أمام عينه عالمين، عالم الحلم وعالم الواقع المرير. 

عالم الحلم أن يعطى للفلاح ثمرة جده واجتهاده، لكنه يلمح عالم الواقع يصارع عالم الحلم، فهو يرى أن الفلاح العاري يزرع ولا يجني من ثماره إلا التعب والتقلب على الأشواك، أشواك الفقر والديّن والمرض، فمأساة الغرباوي ليست في عدم إدراكه للمحيط به، لكنها تكمن في إدراكه الكامل للقصة كاملة، فهو يلمح في شجرة القطن قصة الصراع القائم.
هذه الشجرة التي تكسو الأجساد العارية، مصيرها في النهاية أن تكون عارية، فهو يخاطب شجرة القطن فيقول:

رواك من دمه وبل ثراك 
وغذاك صيب دمعه وسقاك 
يا بنت عاري المنكبين ترعرعي 
فعسى أراك وقد كسوت أباك 

وعلى الجانب الآخر يرينا الغرباوي مشهد أناس تصحرت قلوبهم، وماتت إنسانيتهم فهم في كل عصر المنافقين الأفاقين، الذين يأكلون على كل الموائد فيقول:

كأنهم بعد عكاف على صنم 
في الجاهلية ماض البطش فعال 
من لي بفأس الخليل اليوم أحطمه 
وحبذا النار إني نارهم صال 
علام تقديس أفاك لو انكشفت 
عنه المظاهر أبدت شبح مغتال 

هكذا كان الغرباوي يحيى حائرا بين عالم راقي، وعالم أقل ما يقال عنه انه ظالم .. واحته المجهولة التي نقصدها هي روحه التواقة الحالمة، فقد عرف من البداية القصة كاملة من عبر التاريخ، الذي يسعده المال فهو واهم، فبورصة الذهب والفضة لا تثبت على حال.

وإذا كانت السعادة في تصفيق الآخرين، فهم يغيرون آراءهم كل يوم .. والسلطة كالأسد أنت اليوم راكبه، وغدا أنت مأكوله.. كان سلاحه في الحياة الحب للنهوض بالإنسان، وبالمعذبين في الأرض.

وقد اختار الغرباوي "غادة الريف" رمز الحب، لأن الأنثى عنده من بدايتها إلى نهايتها عطاء، نجده ساميا في حبه، فهو يخاطبها:

ماذا تخافين إني في الهوى ملك؟ 
لا تحسبي أنني يا غادتي بشر 
إني سماء طهور لا يطاولها
رجس التراب ولا يعلو لها كدر
آمنت بالحب يسمو في طهارته 
فما اعتذاري لدى قوم به كفروا

إن الغرباوي أحب على طريقه الصوفي الأكبر ابن عربي، الذي كان قلبه مرعى لغزلان، ودير لرهبان، ونار لمجوسي، وقبلة لمسلم، إلا أنها المحن كانت تقابله واحدة تلو الأخرى، حتى جعلته يهرع دائما إلى تلك الواحة المجهولة، مترفعا عن دنايا البشر.
 

تم نسخ الرابط