ساقني حظي أثناء تدريبي العملي في السنة النهائية لي بالجامعة، حيث كنت أدرس في قسم علم النفس، إلى مستشفى الحسين بمنطقة الأزهر، وتحديدا في قسم الأمراض النفسية والعقلية.
كنت في غاية السعادة وأنا في بداية اليوم، وكنت دائما أقول في نفسي إن المرضى النفسيين هم أكثر الناس عقلانية، ولكنهم اختاروا العيش في عالمهم الخاص، هربا من مجتمعات ساحقة الأنفس.
كانت جولتي الأولى في عنبر الرجال، واستقبلني أحدهم بضحكةً رقيقة، وكان شابا وسيما جدا ومهندما، وفِي يده قلم وورقة رسمت عليها عدد من الدوائر غير المتناسقة.
استبشرت خيرا وقلت والله شكلنا إحنا اللي مجانين، ثم بدأت حديثي معه وأخبرني عن اسمه ومهنته، حيث كان يعمل مهندسا على حد قوله.
وأخبرني بأن الخريطة التي يرسمها حاليا هي خريطة كونية، وأنه يستطيع أن يغير العالم بجرة قلم، وأنه يدون أسماء من يحبهم في السماء كي يحظوا باهتمام الرب، ويكونوا في عليين.
كنت أستمع إليه باهتمام شديد، كمن يستمع إلى محاضرة دكتور عظيم في مدرجات الجامعة، وسرحت بخيالي في خريطته الكونية، وأفقت عندما أخبرني بأنني نلت الشرف، وأنه دون اسمي في السماء السابعة، وأنني نلت بذلك المنى والمراد.
وقتها قلت ألحق نفسي قبل أن أكون رفيقته في العنبر، ونرسم سويا مئات الخرائط الكونية، وانسحبت في هدوء ووداعة من أمامه، متوجهة إلى الحالة الثانية.
الحالة الثانية كانت لشاب عشريني يرتدي جلبابا، وكان سارحا في ملكوت الله، نائما على سريره وبجواره والدته ترتدي نقابا وتجلس منكسرة.
وأخبرتني الأم بأنه لا يرد على أحد منذ الحادث، وقالت إن ابنها قام بقطع عضوه الذكري، لأنه يتوهم أنه المهدي المنتظر، وأنه نبي، وأن الله اصطفاه لينجي البشرية من يأجوج ومأجوج.
ورفضت الأم الحديث عن أي معلومة أخرى، لكي أستطيع أن أفهم منها سبب تطور حالته.
خرجت وكلي ذهول من هول ما رأيت وسمعت، وقلت إنه من المؤكد أن عنبر النساء سيكون أخف وطأة من عنبر الرجال، ولن يقابلني هناك فلاسفة ولا أنبياء.
وصدق حدسي، حيث دخلت وكان بالعنبر حوالي خمس عشرة حالة متفاوتة الأعمار.
وجدتهن جميعا يضحكن ويأكلن، فانفرجت أساريري وقلت خيرا.
سألتني المريضات الحلوة نزيلة معانا ولا إيه؟! فامتعضت وأنا أنظر إليهن وتمتمت بكلمات نزيلة في عينك منك ليها، دا أنا ست العاقلين، وفِي قرارة نفسي أصابني الرعب من فكرة "الجلاشة"، التي نشاهدها في الأفلام عندما تقوم السجينات بعمل الواجب مع أي نزيلة جديدة.
اخترت إحداهن كانت هادئة ورزينة، وتنظر بعمق في اتجاه الشباك، سألتها ما اسمك، وما الذي يضايقك؟ أجابتني في هدوء وإنتي مال أمك!
وهنا تبرعت إحدى النزيلات ودافعت عني ونهرتها قائلة كلمي الأستاذة بأدب يا بت وهاج العنبر كله، وانقسموا فريقين، وشعرت بأني على مشارف "حرب شباشب"، نهايتها ستكون عشرين غرزة في الدماغ، فقررت الخروج فورا والانسحاب، خاصة في ظل عدم وجود ممرضة، أو أي مسؤول بالعنبر، ولكن قبل اتجاهي إلى الباب، أغلقته إحداهن وبدأت الشباشب تتطاير فوق رؤوسنا، فهربت واختبأت تحت السرير، ولم أشعر بنفسي إلا ويد تمتد لتسحبني، وتقول ليصاحبتها إخرجي متخافيش، أنا مسؤولة العنبر.
خرجت أتصبب عرقا من الرعب والهلع وملابسي كلها مبللة، ولا أدري في الحقيقة هل كانت مبللة من العرق أم من شيء آخر؟!