الجمعة 22 نوفمبر 2024
الرئيسية عاجل القائمة البحث

 

الليل بعد منتصفه بكثير.. هدوء شامل يسود الشوارع، بعض همسات وهمهمات تأتي من بعيد، أناس عائدون إلى دورهم بعد أن استهلكهم المساء، كل له قصة متعددة الفصول، وكل وجه له حكاية ورواية، أشجان وأفراح تملأ تلك الوجوه العابرة. 

هبطت أنا ورفيق الدرب الصحفي، جمال جورج، من سيارة خاصة كانت تنقلنا من 6 أكتوبر، وتوفقت بنا أمام قسم الأزبكية، فترجلنا حتى ممر عمارة رمسيس، ومنها إلى الميدان. 

وفجاءه شق عباب الميدان شحاذ بملابس مهلهلة، طالبا منا شيئا لله، ولكن بسخرية قلنا له إحنا عايزين اللي يشحتنا، فما كان منه إلا أن أخرج من بين طيات ملابسه تلك، كل ما يملك وهو مبلغ تسعة جنيهات وربع ثم مشى، وعاد ثانية ليخرج من ملابسه بعض حبات اللب الأبيض، وقال لنا الفلوس مش بتصنع رجال، وما كان منا إلا بهتنا، بينما تركنا هو دون أن يلتفت إلينا هذه المرة، ويأخذ ما أعطانا إياه، ورفض استجداءنا له لكي نعطيه المال.

وذهب الشحاذ إلى نهاية الميدان، وتدثر ببطانية ممزقة، تكشف أكثر مما تستر، فقلت له تعالى فالرجل أعطانا درسا في العطاء، علمنا ألا نجحد العطاء، إلا أنه أخفى نفسه في البطانية، ولم يلتفت لعالمنا المتوحش، المتلفح بالمخلب والناب.

تركنا الرجل للحيرة والتساؤل، عن ذلك العالم المثير، عالم الشحاذين، هؤلاء قد يكونوا مشاريع حياتية حالمة، أجهضها واقع  مؤلم، الأمر الذي جعلني أفكر كثيرا في ذلك العالم  الغريب، حينما طالعت جريدة الوطن، ووجدت موضوعا عن شحاذ آخر في السيدة زينب، يملك مكتبه في الشارع، فاتصلت بالمحررة وأخذت العنوان، وأثناء ذهابي اتصل بي البعض ممن لهم مشاكل يريدون عرضها، فقلت لهم سأنتظركم في مقهى على رأس شارع كلوت بك، وحضروا جميعا وجلسنا على منضدة خارج المقهي، وطلب  بعضنا ساقع، والبعض طلبوا ساخن. 

إلا أنه أثناء وضع المشاريب، جاء شخاذ ضخم وبدا يشرب كل المشاريب، وسط صمتنا وذهولنا، وما كان مني إلا أن قلت له سخرا، ادعي لنا يا محمد، فقال أنا مسيحي ادعي لكم إزاي؟!

غريب هذا العالم، شحاذ يعطي، وآخر يقتنص ومشوا، وذهبت أنا إلى ذلك الشحاذ صاحب المكتبة، الموجود على رصيف بعض شوارع السيدة زينب. 

وإذا بذلك الشحاذ الغريب، الذي يجمع الكتب من القمامة، ويسرق بعضها، حتى كوّن مكتبة فيها كل أنواع المعرفة، يقول لي: هل  تتهمني بالجنون؟ كلا أنا لست مجنونا، أعلنتها صرخة مدوية لينتبه الغافلون.. حي على القراءة، سرقت من أجلكم يا عالم، لتتنبهوا إلى قيمة أي كتاب، أي قصة. 

ثم أكمل حديثه: امتلات رأسي حتي طفح ما بها من معين، لكن أبدا لم أصل إلى ما أصبو إليه، عالمي كله من الخيال، فمن سطور الكتب لم أعرف التجربة الحقيقية، لم أتذوقها، وفي كل مرة كنت أبغي المعرفة، أبغي أن أعيش واقع الحياة، لكن كل مرة أحاول أعود مثخنا بجراح عدم الفهم، أعود بخفي حنين إلى عالمي الوهمي. 

وبدأ الحزن يكسو وجهه وهو يقول: حياتي كلها خيال، سراب كتب، حياتي من قبل كانت مأساة وملهاه منذ نشاتي وعالمي المملوء فقرا وقهرا وألما. 

ذات يوم خرجت أبحث عن حريتي، وأصنع عالمي، لكني أصبحت كما ترى. 

وتركته وذهبت بعيدا عنه، أفكر في صناعة تقرير تلفزيوني  وحددت المكان، وسألت جيران رصيفه عن المواعيد التي يعود فيها إلى مكتبته الموجودة على الرصيف، وأخذت ارقام بعض المحلات الموجوده بجواره، وحددنا الميعاد، وذهبت المراسلة ليقول لها الموجودون في المكان، إنه مات بالأمس اثناء عبوره الطريق. 

حزنت كثيرا عليه، ذهب وذهبت معه أسراره التي كنت أريد سبرها، وسبر عالمه، الذي تحفظ كثيرا على ذكره أثناء حديثي معه، تركني ولمن تركتني اللفهة، عن كشف هذا العالم المثير.

تم نسخ الرابط