الخميس 22 أغسطس 2024
الرئيسية عاجل القائمة البحث

إذا سمع المرء نغمة قديمة بعد مرور أعوام ظن خلالها أنه نسيها ثم تعرفت عليها روحه وتاقت لها نفسه، تمنى لو عانقها معانقة خِلّه القديم فهو أمام ذكرى أخذت الكثير من قلبه أو قل من صحته وراحته.. هكذا أنا تذكرت ما ظننت نسيانه وكأن صفحاته من التوراة القديمة.

أشرقت شمس هذا اليوم والجميع يملؤه الحماس إلا أنا، فأنا أخطو هذه الخطوات بتلقائية الأحداث فقط.. انتهاء الثانوية.... إذن هناك جامعة، فلترفع أشرعة سفينة هذه المرحلة إلى "تفهنا الأشراف" .
كانت عيناي قد غلبهما اليأس والنعاس من سكون العربة واختناق هوائها قبل أن تلكزني زميلتي التي لا أعرفها سائلة عن بأي قسم سألتحق؟ 
أجبتها بلا أي شغف وبكلمات تُنهي الحوار قبل أن يطول، أني بالفرقة الأولى وهذا هو اليوم الأول لي. 
فردت: إذن أنتِ لا تعلمين أن هذه السيارة ليست الوحيدة لنقلنا للجامعة؟
عقبت أني علمت من خالي ووالدتي حين أتوا لاستئجار السكن، أن خمسة كيلومترات باقية ستحتاج سيارة أخرى.

ما كنت أخشاه حدث بالفعل، فقد كانت السيارة الأخرى عبارة عن صندوق خلفي للسائق به أريكتان متقابلتان، ونحيفتان بما يجعلهما تزيدان من الألم لظهورنا وساقينا، ولا يوجد شيئ نتمسك به عند تهور السائق - لا قدر الله - إذا أسرع، فهنا قد نجد أنفسنا "نحن الثمانية" في أرضية هذا الصندوق تاركين الأريكتين حرتين تتنفستان بسعادة وحدهما، أطلقنا عليها بعد ذلك ( سيارة الترحيلات). 
لو تحدث الطريق لكان أكثر مني بلاغة وأعمق مني تأثيراً. ترجلنا بصعوبة بعد أن تيبست أقدامنا وتحرك الناس من حولي إلا أنا، بقيت راسخة بمكاني كأحجار الأهرام، فقد وجدت قطارا يضطر للإبطاء، وتوقعت الأعداد الهائلة التي ستخرج منه لتسير معنا، 
كان الأمر البديهي أن أستفسر عن أمور كثيرة، ولكن نهر الزاحفين من الخلق جعلنا نقتفي أثرهم تلقائياً ونسري بقوة الدفع.
مضيت في هذا الطريق الجديد لي والعتيق قبل وجودي، وقد انتشرت الأشجار على جانبيه، يالطوله وحرقة شمسه وقد تراقصت أشعتها على صخور وحصى هذا الأخدود الصغير عن يساري. 
أيها الطريق كن رحيماً بقلوبٍ في ضرام، لا تكن أملا ضائعا في صحاري الحياة وكأنه بهلوان الزمان الرغيد.. هل تلوح لي بمعنى الضياع؟ أم أنك نور لعقل باحث عن مستقبل أفضل؟ 
ظهرت كليتي في المنتصف كإمام رفع كفيه إلى السماء مبتهلاً داعياً جثا أمامه جمهور العابدين متضرعين.
وصلت لهذه القاعة المقدسة بجهلي المتعطش للارتواء، كادت الصفوف تخلو إلا من بعض الطالبات تلملمن أوراقهن وتنتقلن إلى المقاعد المتقدمة في المدرج، تخيرت لنفسي مكاناً بجوار إحداهن، ودخل هذا المعلم غير مكترث بأننا لأول مرة نسمع هذا الموج من المعلومات الذي يكرره بصوت ناري كالأسقف الذي يُعيد الصلاة ليردد الناس وراءه الدعاء. حاولت فهمه كثيراً وباءت محاولاتي بالفشل، فبدأت النظر بوجوه زميلاتي، فوجدت العدد القليل جداً مازال يعافر بذهنه، ولكن الأغلبية منهن ظللن أسيرات لهندمة أزيائهن وسعيدات بأنه اليوم الأول لمساحيق التزيين، فما أجمل الأفكار في هذا العمر إذا اختلطت بحلاوة العاطفة وخُيِمَ عليها وشاح الخيال.. 
انتهت هذه الساعات من اللاشيئ وحان وقت الذهاب للسكن المخصص، اتخذنا طريقاً متعرجاً بين هذه الأراضي الزراعية الغارقة، ولكن يبدو من بعيد أنه ثعبان جف على استقامته، رفيع لا يسمح إلا لشخص واحد وإن لم يتمسك بكتبه وحقيبته جيداً لسقطت منتحرة بمياه الري.. سرت أتوضأ بالأمل في وجود الراحة بعد هذا العناء، رأيت هذا البيت الذي كان في السابق ل " عمدة" القرية، صعدت ثلاث سلالم قبل أن يبتلعني هذا القبو الرطب البارد، رائحته قوية، أرضه حجرية، أغلقت هذا الباب الخشبي من خلفي، كم هلعت من صورة هذا الأسد الحزين المرسوم داخل دائرة رخامية في أرضيته، وقد صفت فوقه أسرة ثلاثة متماثلة بالطول، وجودهم يكمل صورة سيارة السجناء فقد وصلنا للعنبر الجماعي، صعدت سلماً آخر تزداد درجاته اتساعاً كلما أكملت السير ، آملة في وجود حجرة كي لا أنام مع هذا الأسد في الأسفل، بالفعل وجدتها وتيقنت أنها لي فقد تخيرتها أمي لي وتركت أغراضي وسريري.
ما تبق لي كي أعشقه هنا هو بعض صديقاتي، وأثير صغير كان لا يقل وفاءً فبدونه كنت سأصبح غمامة لا ظل لها.
هكذا صارت حجرتي سجناً اختيارياً بهذه الشرفة الصغيرة المطلة على هذه المنازل الطينية الموحشة، تنهش معظم وقتي، ألقي عليها بأسئلتي دون أن يكون هناك ثمة سامع أو مجيب.
بعد مرور السنوات أنظر الآن إلى التي أمامي في المرآة، أسمع دقات قلبها وصدى أناتها فأيقن أنها شقية بجهلها مهما تعلمت، مُذَبذبة بهمومها مهما نُصِحَتْ، ولكن عزيمتها لا تضعف أبدا، قدماها لا تكل عن تحسس الطريق، تجري دماء المثابرة في عروقها على تلمس السبيل في حالك الظلمات، إنها أنا، رغم أنني والليل والقمر والقلم، على السواء، في اليُتْم.

تم نسخ الرابط