الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
الرئيسية عاجل القائمة البحث

عندما يذكر اسم شارع كلوت بك #كلوتبكشارع يتبادر لذهن الأجيال السابقة بائعات الهوى والداعرات والملاهى الليلية، ومركز الراقصات والعوالم حيث كان الشارع مرتعا لهن، وملاذا لمن يريد المتعة الحرام، أما عن الأجيال الحالية فهي غالبا لا تعرف عن ذلك الشارع سوى أنه مكانا لبيع الأجهزة الكهربائية، ومكانا لبعض الورش الصغيرة ومحلات بيع الملابس، وبعض المكتبات والشركات الصغيرة واللوكاندات التراثية، فما قصة الشارع الحقيقية وتاريخه المشرف المنطمس تحت زحف العاهرات؟  
  من المعلوم أن شارع كلوت بك يبدأ من ميدان رمسيس عند رأس شارع الفجالة ( شارع كامل صدقى اليوم ) ، وينتهى في العتبة، وتحديدا عند التقائه بشارع نجيب الريحاني أمام فندق المنتزة الكبرى والشركة الوطنية للمعادن عند الطرف الشمالى الغربى لحديقة الأزبكية، وأول من أطلق اسم "كلوت بك" على الشارع الخديوي إسماعيل حفيد محمد علي باشا خلال تقسيم القاهرة الخديوية عام 1875 تخليداً لذكرى كلوت بك - هو أنطوان براثيليمى كلوت ذلك الطبيب الذي ولد عام 1793، فى جرنيوبل فى فرنسا وحضر إلى مصر فعهد إليه محمد على باشا بتنظيم الإدارة الصحية للجيش المصرى؟ 

وصار رئيس أطباء الجيش قبل أن يمنحه محمد على باشا لقب "بك" تقديرًا لجهوده فى النهضة الطبية التى أحدثها فى مصر. أقنع كلوت بك، محمد على باشا، بتأسيس "مدرسة الطب"، فى أبى زعبل، وتولى إدارتها، فاختار مائة طالب من الأزهر وتم تعليمهم الجراحة والتشريح والطب الشرعى والكيمياء وأمراض النساء، وكانت هذه العلوم مجهولة لأهل القاهرة، وبعد تخرج أول دفعة تم اختيار عشرين طالبًا ليعملوا معيدين فى المدرسة، وتم نقل المدرسة فيما بعد إلى قصر العينى مكانها الحالى، وكانت أول مدرسة طبية حديثة فى الدول العربية. وقد بذل كلوت بك جهودًا كبيرة فى مقاومة الطاعون الذى حل بالبلاد عام 1830، وعنى بتنظيم المستشفيات. 

وهو الذى أشار بتطعيم الأطفال ضد الجدرى، وفى عام 1847، كان "كلوت بك"، أول من استخدم البنج فى مصر فى عمليات خاصة بالسرطان والبتر، كما أثرى "كلوت بك"، المكتبة الطبية العربية، بالعديد من المؤلفات الطبية. وفى عام 1849، عاد إلى مرسيليا، بعد أن ساد مصر حالة من الإهمال فى عهد عباس حلمى الأول، ورغم ذلك عاد إلى مصر عام 1856، فى عهد محمد سعيد باشا، الذى قرر إعادة افتتاح مدرسة الطب فى احتفال ضخم، وفى عام 1858، عاد "كلوت بك"، إلى فرنسا بسبب حالته الصحية، وتوفى "كلوت بك"، فى مرسيليا، عام 1868، وقد تم تكريمه بإطلاق اسمه على شارعين فى القاهرة، وجرينوبل. 

وكان شارع كلوت بك موجوداً قبل تسميته بهذا الاسم، لكنه كان سوقاً عشوائية لبيع الحبوب والخضر والفاكهة من قبل الحملة الفرنسية على مصر 1798. وبعد أن دخل نابليون بونابرت القاهرة أردا أن يتخذ من موقع محدد مركزا لجنوده بحيث يكون ذلك الموقع به الغلال والطعام مع التأمين الكافي للجنود، فلم يجد أفضل من ذلك المكان بالقرب من قرية تسمى " أم دنين " والتي هي ميدان رمسيس الآن بما جاوره . وبالفعل اتخذ من المكان معسكرا لجنده وأمر بهدم مسجد أولاد عنان الذي كان موجدا في مكان مسجد الفتح الآن حتى يتسع المكان لجنوده. 

كلوت بك

وقيل إن مسجد أولاد عنان هدم خلال ثورتي القاهرة الأولى والثانية ضد نابليون والمحتل الفرنسي، وبعد أن استقر نابليون في المكان هجر أهالي قرية أم دنين ومن حولها المكان خوفا من المحتل الذي سيعبث جنوده مع نسائهم بالتأكيد، فكما قال المقريزي والجبرتي : "إن الأحرار هجروا المدينة أو المنطقة، عندما تحولت بؤرة بغايا، لأن الناس الشرفاء يتركونها، بالتالي أصبح الشارع مقتصرًا على الحانات والفنادق المشبوهة والمقاهي". 

ومع استقرار الفرنسيون في ذلك المكان بدؤوا بالبحث عن الحانات والخمارات واللهو والدعارة، فسارع بعض معدومي الشرف الذين لا يهمهم سوى المال إلى افتتاح تلك المحلات ومنازل الدعارة، ومن هنا بدأت أماكن اللهو وممارسة الدعارة في المنطقة والمناطق المحيطة، واشتهرت في القاهرة شوارع ضمت بيوتًا و لوكاندات لتقديم المتعة غير شارع كلوت بك، مثل شارع عماد الدين، ومحمد علي، ووش البركة. 

وظل الأمر كذلك حتى بعد جلاء الحملة الفرنسية عن مصر، فقد راجت تلك التجارة المحرمة، لدرجة أن محمد علي فرض ضريبة الدعارة لبعض الوقت ثم ألغاها عام 1837، ثم بدأت الدعارة في الخضوع للتسجيل والتنظيم منذ تطبيق اللائحة التي سميت بتعليمات بيوت الدعارة والتي استمر العمل بها حتى ألغيت عام 1949. وعندما تضاعف الوجود الأجنبي في مصر بشكل عام منذ الحملة الفرنسية بدأت الحكومة تسمح بمحال الخمور وبيوت البغاء بوجه خاص، ظناً من النظام آنذاك أنها وسيلة لحماية بنات البلد المصريات من الأجانب، وأن هذه البيوت ستصرف أنظارهم عن التعرض للمصريات، وفي الوقت نفسه كانت وسيلة مُثلى لجمع ضرائب من هذه المهنة.

شارع كلوت بك

وفي عام 1882 وبعد احتلال بريطانيا لمصر، تمركز جنود الاحتلال حول الشارع الواقع على أطراف المدينة، بما ساعد في انتشار بائعات الهوى في حانات "كلوت بك" وفنادقه لتلبية رغباتهم. لكن الأمر بدأ يتقنن تدريجيا، وبدأت محاولات تنظيم ممارسة البغاء داخل مصر خلال تلك الفترة، وظهر أول قانون لإلزام بائعات الهوى بالكشف الطبي في نوفمبر 1882، وذلك بعد شهر وبضعة أيام من دخول 13 ألف جندي بريطاني مصر. ثم صدرت لائحة التفتيش على بائعات الهوى عام 1885، وألزمتهن بتسجيل أسمائهن وأماكن عملهن وفرض إجراء الفحص الطبي في مستشفى "الحوض المرصود" بمنطقة الدرب الأحمر في القاهرة، ودفع الضرائب وإلا عوقبن. 

والسبب في ذلك أن الاحتلال البريطاني حضّ الحكومة المصرية على تقنين الدعارة، خوفاً من انتقال الأمراض الجنسية إلى جنوده، ومن ثم نقلها إلى بلدهم عند عودتهم. وساعدت التصاميم المعمارية لشارع كلوت بك، في جعله مكاناً مناسباً للمهنة، فالغالبية العظمى من مبانيه اقتصرت على فنادق وبنسيونات وشقق، ما جعل المكان صالحاً لممارسة الحب خلف أبواب مغلقة، وقد استفادت الأنظمة التي حكمت مصر من هذا العمل فى جمع الضرائب.
  وفي سنوات الاحتلال الإنجليزي صار شارع كلوت بك الأشهر لبائعات الهوى وممارسة البغاء والراغبين في المتعة المرخصة من الحكومة، حيث كان الشارع ممتلئ بالمقاهي والحانات وبائعي الخمور حتى عام 1949، ولا تزال بقايا هذه المقاهي التي كانت تسقى روادها خمرا قائما حتى الآن. 

كما لا تزال البنسيونات التي كانت تكتظ ببائعات الهوى وطالبي المتعة موجودة حتى يومنا هذا. كما ساعد على رواج البغاء بالشارع استقرار جاليات أجنبية كثيرة فى مصر من أرمينيا، وبريطانيا، والنمسا، واليونان، وإيطاليا، وفرنسا، وألمانيا، واليونان، وقبرص، وغيرهم الكثير سواء للعيش أو للعمل. وهذا الزمن كان يشهد العديد من المسميات أبرزها "المومسات" وهن اللاتى يمارسن الدعارة، ثم "البدرونات" وهن مديرات "بيوت الدعارة المُرخصة"، فضلاً عن وجود "القواد" الذى يُدير النشاط بجلب الزبائن، وهناك "البرمى" وهو "عشيق المومس". وبعد دخول الترام فى الشارع أصبح مزدحمًا وامتلأ الشارع بجنود الإنجليز وتحول إلى مقر تجارة البغاء، وكان مرخصًا ولم يحرم إلا فى منتصف الأربعينيات.

رخصة البغاء

ثم سيطر على الشارع الفتوة إبراهيم الغربى الملقب بإمبراطور البغاء في مصر – له حكاية ليس أوان سردها - وكان يعذب ويقتل كل من يتمرد عليه وكان يرشو حكمدار القاهرة وقتها «هارفى» مع مأمير أقسام عبدين والسيدة زينب والأزبكية، وظل الأمر إلى أن اكتشف النائب العام جرائمه وتم سجنه ومات بالسجن. وليس غريبا أن يُستهدف الشارع من قبل الفدائيين من أبناء الحركة الوطنية على امتداد تاريخها منذ بداية الاحتلال الإنجليزي حتى جلائه عن القاهرة، حيث كانوا يستهدفون قادة الاحتلال البارزين وجنودهم وبعض الخونة والمعادين للحركة الوطنية، حيث كان الشارع أرضا خصبه لتنفيذ العمليات الفدائية.

وعن قصة انتهاء أسطورة الدعارة فى "كلوت بك"، فيرجع الفضل في ذلك لجهود النائب البرلمانى سيد جلال والذى تبرع بإنشاء مستشفى سيد جلال؛ والذي كان سببًا فى إلغاء البغاء فى مصر، إذ كان تاجرًا وله تجارته، وتمكن من دخول مجلس الأمة فى 1945، وحرص على إلغاء البغاء بالرغم من معارضة الحكومة وقتها له، وفى سبيل تحقيق  هدفه  أقنع "سيد جلال" وزير الشئون الاجتماعية وقتها بالذهاب لدائرته بباب الشعرية لافتتاح مدرسة، ووافق الوزير وذهب بالفعل لافتتاح المدرسة، واتفق "جلال" مع سائق الحنطور على الدخول بالوزير لشارع "كلوت بك" والسير ببطء.

بائعات الهوى

وتعرض الوزير لدعوات من العاهرات بممارسة الجنس معه ظنًا منهن أنه أحد الأثرياء، حتى مزقن ملابسه وسقط "طربوشه" على الأرض، ليخرج من المكان ويصدر قرارًا بمنع الدعارة فى مصر استجابة لـ"سيد جلال". وحدث حريق القاهرة في 26 يناير 1952 والذي قضى على أماكن اللهو في هذا الشارع، وبعدها شهد الشارع تحولات كبيرة؛ حيث أصبحت المنطقة كلها ومن ضمنها شارع كلوت بك ملتقى ثقافي مهم بعد إنشاء العديد من دور النشر والمطابع، وحتى مقاهيها كانت مسرحًا للقاءات المثقفين والمفكرين الكبار في مصر.

سيد جلال
تم نسخ الرابط