لم تشغل الغربة يوما حيز تفكيري كحلم منشود، ربما لأني اعتدت على سفر الأشقاء والأقارب، ووجدت في الرحلة الممتدة التي ذرفت طفولتي فيها دموعها، بين حنين البقاء في الوطن وهجر ذلك من أجل التطور، نتائج غير مرضية.
الغربة تحولت في حياتي إلى شبح طاردني عبر مشاهد ممتدة للأقارب، الذين غابوا فيها عن فرحة استقبال مولود، أو تخلفوا عن جنازات الأحبة، ليصبح مشهد الوداع الأخير دون حضور، مرارة معلقة على جدار الغربة.
مشاهد طالما آلمت طفولتي بين فرحة القادمين، وغربة المسافرين، وحقائب تدثرها الأم والجدة، ترسم مصيرا ممتدا يلاحق عائلة الشتات، في تناغم وتشابة غريب، بحثا عن لقمة العيش.
كل من اغتربوا من عائلتي ظلوا بعدها صامتين، قلت الخطابات المرسلة، وتقلصت المكالمات الهاتفية، حتى وصلت إلى منطقة العدم، حل الصمت على أحاديثهم، وتراجعت الألفة التي كانت تسعدنا ونحن نجتمع حول الجدة، حين كان يغمرنا الدفئ من صخب الأحاديث، التي عانقت تلك اللحظات التي سبقت الغربة.
كل شيء كان ماضيا جميلا ومؤنسا ومحرضا على الحب والسؤال، وبالرحيل توقف كل ذلك، وظل سؤال يتردد في خاطري: ماذا فعلت بهم الغربة ليتملكهم الخرس هكذا؟!، وهو ما وجدته أيضا مع تجارب الأصدقاء الذين تغربوا، إذ شيئا فشيئا تقلصت أحاديثهم أيضا، وجمدتها رياح الغربة العاتية، دون ترك مساحة للصراخ في وجوهم: هل نسيتم أحبة تركتموهم خلفكم؟!
أسئلة تتدافع أمامي كلما لاحت كلمة الغربة كحلم منشود للنجاة من قلة حيلة الأوطان، وبقاء الوضع على ما هو عليه دون تغيير.
وعلى مدار سنوات طويلة، أخذت الغربة منى تفكيرا متأملا في تجارب من حولي، سنوات وأنا أسأل ذاتي: "لماذا يعود الكل يشبه بعضه في الصمت؟! تتحول وجوههم جميعا إلى نظرة زائغة في عمق بئر تسقط أرواحهم فيه، تجعلهم لا يحنّون للقعدات العائلية أو تجمعهم بهجة الأفراح، إذ تتحول جميعها إلى دقائق أو ساعات معدودة، تتحمل الأحاديث في نزق رغبة في انتهائها سريعا للعودة إلى كهف الصمت.
هل الغربة تصيبنا بالخرس رغم خلقتنا الصحيحة؟!
كل ما أعرفه في كل السنوات التي مضت أنني صرت أكرهها لأنها تركتني وغيري في ماضيهم، الذي لم يعد مهما لهم سماعه أو الاطمئنان عليه، ورغم تلك الكراهية نحو الغربة، فإنه في الشهور الأخيرة هيمن عليّ إحساس سرعان ما لفّني بضرورة الرحيل ورفض البقاء، يخطفني كنداهة في نومي ويقظتي، ويحكم قبضته على روحي وجسدي، ويصرخ في ساعات الليل: "ابتعدي".
أستيقظ وأنا ادفع الاستسلام لهذا الصوت، عبر المشي على كورنيش النيل لتضحك لي نجوم مياهه، ومعه تداعبني زخات المطر، لتقذف في قلبي حنين البقاء، لكن سيمفونية التضاد بين الإحساسين لا تكف عن ضرب رأسي كل يوم، لأنني أخاف أن أنضم إلى قافلة الصامتين الذين تركوا وراءهم كل شخوص الماضي دون حنين للرجعة، فهل أعود يوما مثلهم؟! أم تبقى ذاتي مثلما كانت عليه محبة للسؤال والونسة؟