حكاية شخلع والقبطية وزوبة الكمسارية، وأنوس المصرية
عزيزة كهربة وبمبة كشر من العلامات التاريخية
حتى نتعرف جيدا على أصل شارع محمد علي وتاريخ نشأته، وأسباب ذلك، ينبغي أولا أن نعرف ظروف نشأة حي الازبكية للارتباط الوثيق بينهما، فقد كان ذلك الحي حتى أواخر القرن الرابع عشر وفي عهد المماليك عبارة عن أرض قاحلة تعرف ببركة بطن البقرة، فأعطى السلطان قايتباي قائده سيف الدين بن أزبك قطعة كبيرة من هذه الأرض التي لم يكن بها سوى ضريحين: ضريح سيدي عنتر وضريح سيدي وزير، فعمرها سيف الدين بن أزبك ونسبت له، وأوصل إليها المياه من القناة الناصرية،
كما أنشأ الجامع الكبير ثم أنشأ حول الجامع البناء والربوع والحمامات وما يحتاج إليه من الطواحين والأفران، وحدد لها في كل سنة عيدًا أسماه «احتفال فتح البركة»،
فحينما يرتفع النيل يتم فتح السد المقام عند مدخل البركة على الخليج الناصري فتندفع المياه إليها؛ وبحلول عام 1495 كانت الأزبكية قد تحولت إلى حي كبير يتوسط القاهرة.
وبعد دخول العثمانيين مصر عام 1517م شيّد رضوان كتخدا في الأزبكية قصرًا كبيرًا على حافة بركة الأزبكية الشرقية، وأسماه "العتبة الزرقاء" لأن بوابته التي كانت تؤدي لشارع الأزهر كانت زرقاء اللون، بالإضافة إلى وجود بلاطات زرقاء فوق عتبته. وبعد تولي محمد علي حكم مصر اختار ميدان الأزبكية ليكون قلب العاصمة الجديدة، وأقام فيها في بداية حكمه، إلى أن تعرض لمحاولة اغتيال على يد الجنود الأرناؤود، مما دفعه بعد ذلك ليصعد إلى قصره في قلعة الجبل، لكن ظلت الأزبكية مَسكنًا للطبقة العليا، مما أكسبها أهمية متزايدة مع مرور الوقت حيث أصبحت مركزًا للطبقة الحَاكمة ومكانا يمتلئ بالفنَادق والمتنزهات.
وبعد أن استقر محمد علي بالقلعة أراد أن يكون هناك طريق ممهد وسريع يصل من خلاله وجنوده إلى الأزبكية حيث تسكن طبقة الاعيان وأثرياء الجند، وهو يريد أن يكون هؤلاء تحت عينيه وفي رقابته الدائمة، حتى إذا حدث منهم غدر أسرع بجنوده إليهم، ومن هنا كان تفكيره في شق طريق مستقيم من القلعة إلى الأزبكية مباشرة لأن الحواري والأزقة والشوارع كانت ضيقة ملتفة حول بعضها ولا يوجد مثل ذلك الطريق، فبدأ جديا في الاستعانة بالخبرة الفرنسية في شق الطريق ورسمه عام 1946 وتعطل العمل بموت محمد علي، حتى مجيء الخديوي إسماعيل الذي كان يريد أن يحول القاهرة إلى نسخة من باريس بعدما بهر بتلك الأخيرة، فانتدب المصمم الفرنسي "هاوسمان"، الذي خطط مدينة باريس وخاصة شارع ريفولى ليخطط القاهرة الخديوية ويصممها ورقيا، وبها طريق على غرار شارع ريفولي مع إشراف تنفيذي من علي باشا مبارك مدير ديوان الاشغال في عام 1874 .
وقد صادف ديوان الأشغال عقبة في نهاية الطريق من ناحية الأزبكية، حيث كانت هناك مقابر معروفة باسم "ترب الأزبكية وترب المناصرة"، فقامت الحكومة آنذاك بنقل الرفات إلى مقابر أخرى، ومسجد العظام الذي سبق وتحدثنا عنه في موضوع شارع عبد العزيز، واشترت محال ومبانى كانت موجودة فى المنطقة من أصحابها لإنشاء الشارع. وبدأ ديوان الأشغال فى شق الشارع تحت إشراف على باشا مبارك، وأقيمت العقارات المطلة على الشارع فوق بوائك (أعمدة متتابعة على خط مستقيم تحمل عقودًا من أعلاها لتحمل السقف، وتظلل الرصيف من الجانبين)، لتوفير مظلة للتجار والمترددين لحمايتهم من الشمس والأمطار، وهذا الطراز ما زال موجودًا بالأحياء القديمة فى باريس. وكان الخديوي إسماعيل حريصًا على إنشاء مبانٍ عامة فى الشارع وأقام دار الآثار العربية، التى تُعرف اليوم بـ"متحف الفن الإسلامى"، على ناصية الشارع مع ميدان باب الخلق. وأنشأ دار الكتب الخديوية (دار الكتب والوثائق القومية)، أول دار تُجمع فيها أمهات الكتب والمخطوطات، بعد أن كانت متناثرة فى قصور الباشوات والأعيان ومكتبات المساجد.
وفى العام 1860 خرج من الشارع أشهر الفرق الموسيقية، التى حظيت بشهرة كبيرة وهى فرقة حسب الله، لمؤسسها محمد حسب الله، الذى كان أحد أفراد فرقة السوارى، فى عهد الخديو عباس حلمى. وكان حسب الله موسيقيًا مبدعًا حصل على الباشوية بـ"منطوق سامي" من الخديو إسماعيل، لأنه أحب موسيقى فرقة حسب الله، ومنذ ذلك الوقت وأصبح مؤسسها الباشا من الأثرياء لدرجة أن حذاءه كان مصنوعًا من الجلد المرصع بحبيبات الذهب. وتحول الشارع إلى قبلة الفن والفنانين، وأصبح جزءًا من حكايات السينما والدراما، وكان أبرز الأفلام التى عبرت عن علاقة الشارع بالفن فيلم «شارع الحب»، وفيلم «خلى بالك من زوزو» وفى المسرح مسرحية شارع محمد على.
وقد اشتهر الشارع بالعوالم ومنهن "شفيقة القبطية" أحد أشهر راقصات مصر وأكثرهن ثراء حتى أنها كانت تسقي خيولها شامبانيا، كما رقصت أمام الأمراء بل ورقصت في باريس، واستطاعت شفيقة أن تخلب عقل الجميع، وهناك أيضاً أمينة شخلع وهي إحدى عوالم شارع محمد علي التي ولدت لأب سوداني وأم مصرية واشتهرت بإسم «شخلع» وكانت إحدى أشهر العوالم بمصر في بدايات القرن الماضي وسكنت بحي الحلمية القديمة وتوفيت عام 1924. ومن أشهر أغانيها "قولوا لعين الشمس ما تحماشي أحسن غزال البر صابح ماشي". أما الأسطورة "بمبة كشر"، فهي راقصة من سلسلة الراقصات اللاتي حققن شهرة كبيرة جداً وسط هذا الكم الكبير من العوالم. ولدت عام 1860 لأسرة من أشهر العائلات في مصر، فجدها لأبيها هو السلطان مصطفي كشر أحد أعيان مصر في القرن الثامن عشر، وهي الراقصة المصرية الوحيدة التي خرجت من أسرة غنية. وكذلك " نعمت مختار" التي اعتبرتها أم كلثوم "سيمفونية "، كما طلبها فريد الأطرش بكل حفلاته، تخصصت في إحياء حفلات العائلة المالكة والمشاهير، وأثبتت أنها فنانة متعددة المواهب، فهي راقصة ومطربة وممثلة ومنتجة عملت في البداية راقصة، ثم انتقلت للسينما وتفرغت للتمثيل حيث جسدت بعض الأدوار الصغيرة حتى أنتجت فيلم "المرأة التي غلبت الشيطان"، وقامت ببطولته، ثم قررت اعتزال الفن والتفرغ لحياتها الخاصة ولابنها الوحيد محمد . وهناك كذلك زوبة الكمسارية، وأنوس المصرية، وعزيزة كهربة وغيرهن. كذلك "نعيمة عاكف" التي جاء بها والدها من طنطا إلى شارع محمد علي .
ومن مطربات ومطربي الشارع نجد "سنية حسنين" التي ولدت عام 1908 ووصفها البعض بأنها صورة مصغرة من أم كلثوم، إذ امتازت بصوت طرب عذب، ووضعت أقدامها في الصفوف الأولى بين معاصريها من المطربات في ذلك الوقت، وتركت الغناء وهي في بداية حياتها الفنية، أشهر أغانيها "على قد شوقى وتعذيبى". أما "فضيلة رشدي"، فمطربة مصرية اشتهرت في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، ولم تسجل إلا القليل من الاسطوانات، ولا يوجد لها أعمال خاصة بها، ولكن لها أعمال مشتركة كثيرة منها ديالوج "الضرتين" مع الفنان أحمد شريف وديالوج "الحب له دولة" مع الشيخ زكريا أحمد . ولأن الشارع امتلأ بكل الجنسيات والأطياف، نذكر من أعلامه أيضاً "سيرينا المصرية" وهي مطربة وممثلة مسرحية مصرية من أصول يهودية ولدت عام 1888 وبدأت حياتها الفنية منذ 1905، كانت مطربة بفرقة "إسكندر فرح"، وتألقت بعد ثلاثينيات القرن العشرين، وهي الأخت الكبيرة للممثلة نجمة إبراهيم. هناك أيضاً الست " نعيمة المصرية " وهي زينب محمد إدريس التي ولدت عام 1894م، وهي مصرية اشتهرت في أوائل العشرينيات، وكان لها مسرحها الخاص "الهامبرا" وتوفيت عام 1976 عن عمر 82 عاماً، أشهر أغانيها "يا بلح زغلول" و"إن كنت شاريني" و"قوم يا حبيبي بقينا الصبح". هناك أيضاً "نرجس المهدية" وهي مطربة وعالمة وأسطى من أسطوات المغنى بمصر، ظهرت في بدايات القرن العشرين وسجلت عدة أغاني واسطوانات لصالح تسجيلات ميشيان. وهناك أيضاً الآنسة "سمحة المصرية" وهي مطربة مصرية برزت واشتهرت خلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، اشتركت مع محمد عبد الوهاب بتمثيل مسرحية "أنت وبختك" 1923 ، كما شاركته في بعض طقاطيقه القديمة مثل "نوبة على كوبري قصر النيل" . ومن قلب الشارع خرج ألمع فناني مصر من أمثال صالح عبد الحي، وشكوكو، وعمر الجيزاوي، وشفيق جلال، وإسماعيل ياسين ومحمد فوزي في بداية حياتهم الفنية، وفي السبعينيات محمد عدوية ولوسي وغيرهم. وعرف الشارع أيضاً بصناعة الآلات الموسيقية من أول المزمار حتى العود، وعرفت المقاهى هناك بأنها ملتقى المطربين ومتعهدين الأفراح.