الأحد 06 أكتوبر 2024
الرئيسية عاجل القائمة البحث

في يوم من أيام الخريف، الشمس تطل طلة الأم الحانية، أعدت عدتها، وهمت بالذهاب إلى محطة القطار، الذي يبعد مساره قليلا عن مشارف القرية، فتلمحه يقبل على المحطة، وهي على مقربة منه، نافثا لأزيز وصفير ودخان الانطلاق. 

فترفع صوتها إلى سائق القطار: استنى يا اخويا.. ومن العجيب أنه توقف لها متعاطفا معها.. يتوقف إلى أن اطمأن على ركوبها، مطلا عليها من شرفة الماكينة.

وجاء الكمساري طالبا للأجرة، كعادة أهل الريف في ذلك الحين ساومته، ومنعا للحرج يدفع أحد الركاب الأجرة للكمساري معلقا لجاره، إن زوجته تصر على المساومة هي الأخرى في كل شيء.

وصلت فتحية إلى المدينة، وسارت تنوء بحمل زادها، مستفسرة عن عنوان، تنادي أحد العابرين: متعرفش يا اخويا عيادة التكتور، فينظر إليها متعجبا دكتور مين يا ستي ماهم كتير؟ لترد: التكتور بتاع الرجلين ـ تقصد العظام ـ  ولا يجيبها من سألته، ولا غيره. 

ظلت تمشي في الزحام حتى حل بها الإرهاق، وهي تحمل قفتها   وتسأل عن "التكتور"، دون يأس إلى أن وصلت لمبتغاها.

دخلت العيادة في لهفة، انتظرت دورها لتطرق الباب وهي تقول: افتح يابا التكتور إزّي حال خديجة بنتي؟ بخير الحمد لله.

استطردت: أنا عضمي ساعات بيوجعني ياتكتور عايزى أجيلك بعد ضم الرز، ليرد: أنا مسافرألمانيا آخر الأسبوع. 

بالسلامة والنبي تقرأ لنا الفاتحة هناك، استقرت في  مجلسها بعد أن قبلت ابنتها وحفيدها حملته تهدهده.

وأخذت تحكي عن عناء مشوارها، عمن قابلوها من الرجال ذوي الذيول، التي تتدلي من الاعناق ـ الكرافتات ـ والنساء ذوات الفساتين المشقوقة من أسفل. 

وكيف كانوا يمعنون النظر إليها، وهي تسألهم عن عنوان التكتور، وأثناء سيرها إذا برنين موسيقي رتيب يصل لسمعها، يقطع حديثها، فتهرع إلى الشرفة لترى موكبا مهيب يتهادي في سيره، إنها عربة تحمل صندوقا مزخرفا، تحفه الورود، وتجرها خيول عليها أقمشة ملونة غطت ظهورها. 

يسير الركب بموسيقاه الصادحة خلف الجنازه المسيحية، حيث يعزف الأرغن الجنائزي، وأعلى العربة ملاكان وديعان خاشعان  لهما هيئة طفلين، لكل منهما جناحان.

وفي دهشه تصيح يا حلاوة يا حلاوة، اتفرج يا واد يا إبراهيم عقبال عندنا!! 

وعادت إلى الداخل واصفة المشهد فتغرق في ضحكها، وعندما اخبرتها ابنتها أنه مأتم، قالت: اسمعي يا خديجة إياك حد يصوّت لما أموت، عايزة مزيكا زي دي، والله لو سمعت حد بيصوت عليا لأنط لكم من النعش تاني. 

وبعد فاصل من الضحك تتوارد الذكريات، فتذكرها ابنتها بإحدى نوادرها الجنائزية، فقد انتوت الذهاب للعزاء في قرية شها، ولأول مرة استعارت ثوبا من جارتها، في تخابث تعطي لها ثوبا كرنفالي الألوان، بادي القصر، وأقنعتها أن هذا هو الثوب المناسب، لأن المتوفى كان رجلا مسنا مريضا بمرض مزمن، وأرملته ارتاحت بموته. 

ظلت تبحث عن الأرملة وسط السيدات في مجلس العزاء، والكل يتغامز عليها، وكادوا ينفجرون بالضحك.

كاد الموقف أن يخرج عن السيطرة  لو لا أن إحداهن أسرعت بسحبها للخارج. 

واستمر حديث الذكريات، ففي إحى الأمسيات المقمرة، يحضر  ابنها من زيارة أقاربه في قرية لا تبعد عنهم بأكثر من ثلاثة كيلومترات، بلهفة استقبلته فوق سطح الدار، وكان الفمر ساطعا، وفردت ذراعيها، ودخل ابنها تحت جناحيها، وإذا بها ترفع وجهها إلى السماء مستفسرة، هل عند قرايبنا قمر زي دا، يا هنداوي يا ابني؟!! 

هذه القصة من رحيق ذكريات الأستاذ محمد الشيخ، أعدنا صياغتها من جديد.

تم نسخ الرابط