الجمعة 22 نوفمبر 2024
الرئيسية عاجل القائمة البحث

طعم البيوت

بالمصري

العثور على بيت يشعر الإنسان فيه بالراحة ليس أمرًا بسيطًا، فالبيوت هي انعكاس لأرواح أصحابها. اختيار بيت سيء يحوي داخله توترًا وطاقة سلبية يؤثر على مزاجنا وراحتنا النفسية التي نتجاهل أهميتها أحيانًا. لذا، قد يكون البحث عن بيت مريح مشابهًا للبحث عن شريك حياة يشاركنا الأمان والراحة.

طعم البيوت يأتي من روح ساكنيها. هناك بيت يحتويك ولا ترغب في مغادرته، وهناك بيوت طاردة لا تتحمل البقاء فيها طويلاً وتتجنب العودة لها.

تختار البيوت كما تختار أصدقائك اللذين يشاركونك نعمة الونس، تبحث دائماً عن بيت يرتاح له قلبك لتسكن إليه، وتسمع فيه صوت قلبك مطمئنًا ساكناً. تتحول رحلتك في الحياة إلى البحث عن بيت يشبهك، تضع فيه كل تفاصيلك وأنت مطمئن لتشعر بالراحة. رحلة بحثي عن بيت يشبهني عانقت مخاوفي من اختيار بيت أعاني فيه من قلة الراحة.

في الماضي أحببت بيوتاً وتعلقت بها، لكني تركتها ورائي وتغيرت ذائقتي اتجاهها كما الأشخاص. هناك من أحببتهم، لكن المحبة تبددت بفعل حماقاتهم، وكلما مرت سيرهم على أثارت في قلبي مزيد من الاشمئزاز. هكذا هي البيوت هناك من يحولها إلى جنة، وهناك من يطبع عليها وحشة تنزع بركة كانت تغمرك لتصبح سجناً وجحيماً قاتلاً.

تعلق قلبي في الأيام الماضية ببيت سكنته، حيث قضي على وحشة غربتي. كنت أري العالم من سطحه وأعانق الحرية وأنا احتضن خصوصيتي التي فقدتها في وطني مؤخراً فكان دافعاً لتركه بعدما تبددت فيه راحتي.

حلقت فوق البيت الذي أسكنه أسراب من الحمام، وكنت أتبع تحليقها حتى تغيب عن ناظري في سماء بلد دائماً ملبدة بالغبار. لكن لم تهبط أي حمامة على سور بيتي أو حديقتي الصغيرة، رغم محاولاتي الدؤوبة لإغرائها بتربية النباتات المزهرة. ولأني أؤمن بالعلامات، فقد كان موت شجرة الجهنمية التي اشتريتها من إحدى المشاتل وتساقط أزهارها، رغم اهتمامي بها، يثير لدي شعوراً مقلقاً ينذر بقدوم حدث سيء قادم.

لم يمر وقت طويل حتى تأكد حدسي، إذ أخبر المالك كل السكان بضرورة إخلاء الدور الذي أسكن فيه لرغبته في هدمه خوفاً من ملاحقة المخالفين، لكنه لم يمتلك الرحمة لمنح السكان فرصة للبحث عن بيوت يرتاحون إليها.

تساقطت دموع الحنين لأسراب الحمام التي كانت تحلق فوق سطحه، وقمت بالتقاط مجموعة من الصور وأضفتها إلى ألبوم البيوت التي سكنتها، ووثقت وداعها عند الرحيل كي لا أنسى ذكرياتي.

حملت حقائبي المرهقة وظللت أبحث لأيام عن بيت أجد فيه راحتي، وكأني أفتش عن إبرة في كوم قش رغم كل البيوت التي رأيتها ولم تعجبني. كنت أقيس إحساسي اتجاه بيت معين بحجم الراحة التي تدب في قلبي منذ الوهلة الأولي التي تحط فيها قدمي، فإذا أحسست أنه بيتي، لا أتردد على الفور في السكن فيه.

وهذا ما وجدته في بيت مسالم، أحسست فيه بنعمة العوض من رب السماء. وفي وقت وجيز، استطعت أن أرتب فيه كل أغراضي دون تأفف. ضحك زوجي لردي على سؤاله: "عجبك؟ “، فأجبته بحماس: "ريحه حلو ".

لكن ما جعل البهجة تدب في قلبي بقوة فور وصولي هو إرسال مالكه البدوي هديه تركتها خادمته بذوق رفيع على باب شقتي للترحيب بقدومنا، طيبته ذكرتني بسماحة جدي وهذا الزمن الجميل الذي انقضى في عالمنا.

فرحت بهذا الترحيب وشعرت باتساع شقتي رغم ضيقها. فتحت ستائر الشبابيك لأري الحمام يحلق حول بيتي ويسكن كل شرفاته، وبجانبه أطباق بيضاء من المياه تروي ظمأ طيور مسكينة تعاني شظف العطش في بلد يقترب مناخه من خط الاستواء، قمت بتغييرالمياة للحمام وأصبحت الرعاية اليومية لهم جزءًا من حياتي، ما أثار بهجتي وسروري كل يوم للاعتناء بهم.

دخلت بيت الراحة لأغتسل من شقاء ترتيب الأغراض، لكن خفق قلبي عندما وجدت حمامة قد نصبت عشها خلف شباكه الزجاجي وسكنت فيه لإطعام طفلها من منقارها. تمنيت من الله حينها أن يرزقني طفلاً مثلها لأطعمه بيدي وتتم أمومتي الناقصة.

تم نسخ الرابط