الست مسكة، يرجع بنا الزمان إلى تاسع سلاطين الدولة المملوكية، وهو السلطان الناصر محمد بن قلاوون، والذي ولد بالقاهرة في عام 1285 م وتوفي بها في عام 1341 م ، وحكم السلطنة المصرية ثلاث مرات في الفترات من 1293 إلى 1294، ومن 1299 إلى 1309م، ومن 1309 م وحتى وفاته في عام 1341.
وقد شهدت مصر في فترة حكمه الثالثة نهضة عمرانية وحضارية كبرى . وقد كان والده المنصور قلاوون مؤسس دولة بني قلاوون، حيث حكم مصر من العائلة القلاوونية 15 سلطانا، ويرجع أصل المنصور قلاوون إلى أتراك أواسط آسيا، وقد تم جلبه لمصر واشتراه الأمير علاء الدين أحد مماليك الملك العادل الأيوبي بـ1000 دينار نظرًا لما امتاز به من جمال ووجاهة فعُرِف من أجل ذلك بالألفي. وفي أيام الظاهر بيبرس تزوج بابنة أحد أمراء المماليك، وتم اختياره حاكمًا لمصر 1279 م ولم يكد يمضي عليه في الحكم سنتين حتى تزوج بزوجة جديدة وهي أميرة مغولية تسمى "شلون خوندا"، وكانت تعيش في مصر مع والدها الذي جاء إلى البلاد فرارا من سخط المغول عليه.
وقد أنجبت له محمد بن قلاوون والذي تولت تربيته وإرضاعه جارية مغولية كانت خادمة لأمه وأتت معها من بلادها، وقيل لم تكن خادمة بل كانت من أقربائها، ولقبها بعض الأمراء بمرضعة قلاوون تشريفا وتكريما لها.
وذكر المقريزي أن اسمها الحقيقي هو "حدق"، وفي رواية أخرى "جلشانة" أي "مثل الورد" باللغة الفارسية. وقد عرفت "حدق" بكثرة أعمال الخير والبر للمصريين، وتعاملها الحسن معهم، وعطفها على الفقراء والمساكين، وإغداقها عليهم بكل ما تملك، وكانت قد تزوجت مع زواج "شلون خوندا" وأنجبت طفلة.
ولما كانت "شلون خوندا" تشعر بالإعياء الشديد اختارت أن تقوم حدق بإرضاع محمد، فأحاطته بحنانها وصارت مرضعة قلاوون الصغير، وأصبحت بمثابة أمه، وقد ذكرت بعض المراجع وفاة أمه في فترة متقدمة بعد ولادته ولكن هذا غير صحيح فأمه ماتت في سن متقدمة وشهدت معه فترات حكمه في مصر والكرك وكانت " حدق " بمثابة أم ثانية له لا تستطيع فراقه، وكان يرى من عطفها على الفقراء وبرها بهم وهو صغير ما حببه في أعمال الخير، وكانت تحب المسك وتتطيب به وتطيب به محمد وكذلك من تعطف عليه من الفقراء، وتطيب الصدقات بالمسك اقتداء بالسيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ فلقبها المصريون ب " الست مِسكة " بكسر الميم، وأحبوها كما أحبوا محمد بن قلاوون الذي يلازمها في غدوها ورواحها.
وقد شهدت مع محمد بن قلاوون فترات حكمه الثلاثة كما جعلها مقربة منه وكهرمانة القصر أو المشرفة العامة عليه، وفي عام 1338 طلبت من السلطان محمد أن يمنحها أرضاً تستصلحها بالقرب من مقام السيدة زينب، فأعطها السلطان هذا المكان الذي سمي بسكة الست مسكة، وكان المكان بالقرب من النيل الذي يمر في فرع الخليج المصري ( شارع بور سعيد حاليا ) ولم يكن يسكنه أحد وغير عامر، وكان المسجد هو أول ما أمرت بإنشائه في تلك المنطقة، فشجعت الناس على تعميرها وتحول مسجدها فيما بعد لمدرسة لتدريس العلوم الفقهية على المذاهب الأربعة كما يبدو من صحن الجامع الذي كانت به نافورة رائعة اختفت كما اختفى مقام الست مسكة من المسجد بفعل أحد السلفية الذي رأى أنه ينبغي هدم مقامها، فاختفى المقام بما كان به من نحاس وذهب وفصوص من الجواهر . وعندما تدخل مسجد الست مسكة تقابلك هذه الكلمات "أمرت بإنشاء هذا الجامع المُبارك الفقيرة إلى الله الحاجة إلى بيت الله الزائرة قبر رسول الله عليه الصَّلاة والسَّلام، الستر الرفيع حدق المعروفة بست مسكة الناصرية في شهور سنة 740".
وقد انجب السلطان محمد ابنه السلطان حسن سنة 1335م ونشأ في بيت ملك وسلطان؛ وشاء الله أن يشهد الوليد الصغير ست سنوات من سني حكم أبيه الزاهر، فقد توفي والده سنة 1341م وخلفه ستة من أبنائه لا يكاد يستقر أحدهم على الملك حتى يعزل أو يقتل ويتولى آخر حتى جاء الدور على الناصر حسن فتولى السلطنة في 1347م صبيا في سن الثالثة عشرة. فشكل الأمراء مجلس وصاية يتولى شئون الدولة حتى يبلغ السلطان حسن سن الرشد، وعندما بلغ السلطان حسن سن الرشد ستة عشر عاما فأخذ يدير شئون البلاد بنفسه، وكان أول ما فعله هو القبض على بعض الامراء وأرسلهم إلى السجن بالإسكندرية، فأخذ بقية أمراء المماليك وكبراهم يتحسبون منه ويتوقعون أن تدور عليهم الدائرة. فتأمروا عليه، فخرج المماليك علي السلطان معلنين تمردهم وعصيانهم عليه حينما علموا بالمكيدة التي كان يدبرها لهم، ودخلوا عليه في القلعة بين حريمه، فصرخت النساء صراخًا عظيمًا وصاحت "الست مسكه" في وجه الأمير صرغمتش المكلف وسبته وشتمته وقالت له في استنكار :" هل هذا جزاؤه منك ؟" لكن صرغمتش أخذ السلطان وغطى وجهه وخرج به. ولم تتركه الست مسكه وأصرت على ملازمته وأن تبقى في خدمته في أي مكان يوضع فيه، وسمحوا لها بذلك، فكانت المرأة الوحيدة التي دخلت السجن باختيارها لتكون الى جانب السلطان حسن طوال فترة اعتقاله لتقوم على خدمته، وقد عاشت الست مسكة في السجن مع السلطان حتى ماتت في السجن وخرج بعدها السلطان ليتولى فترة ثانية .
ونجد الكثير من المواقع وبعض الكتب التي تناولت أمر الست مسكة نسبت دخولها السجن مع محمد بن قلاوون، وبعضها مع المنصور قلاوون والحقيقة أنها دخلت السجن مع السلطان حسن بن محمد بن قلاوون . وقد وقر في ذهن الكثير من العامة في ذلك الزمان أن مرضعة قلاوون هي الست الحكيمة المدبرة الوفية الخيرة، ولكن هذا تحول في العصور المتقدمة إلى دلالة عكسية بحيث تطلق مرضعة قلاوون على الست كبيرة السن الداهية الشريرة أحيانا، ولعلنا لا ننسى مشهد من فيلم " خلي بالك من زوزو" عندما كانت تحية كاريوكا ترقص فعلق على رقصها عباس فارس ساخرا :" أيه الولية الكهنة دي ؟ جيبيين مرضعة قلاوون ترقص لبنتي ؟" .
وأخيرا فقد اعتمدنا في هذا الموضوع على كتاب " بدائع الزهور في وقائع الدهور " لابن إياس ، وكتاب "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" للمقريزي، يستطيع القارئ الكريم الرجوع إليهما فيما ذكرناه.