الإثنين 16 سبتمبر 2024
الرئيسية عاجل القائمة البحث

من هول المشهد وشكا في قدراتها العقلية انفض الجميع من حولها بعد تعنيف الشرطة لها ودخولها في نوبة صراخ، فهي سيدة في مقتبل الخمسين من عمرها كان للقدر كلمته في تدخل البعض لإنقاذها من الموت بأعجوبة بعد إلقاء نفسها أمام عجلات القطار، شغفي لمعرفة دوافعها وشعورها في تلك اللحظة دفعني للاتجاه نحوها وتهدئتها، كنت أظنها في حاجة لطبيب أو لمن يربت على كتفها، إلا أنه على ما يبدو أن لديها من دوافع فقدان الشغف تجاه الحياة ما تشيب له الأبدان، اكتنفني الصمت للحظات وأنا أحدق نظري نحوها في محاولة لإسداء النصح تارة والتهدئة تارة أخرى، إلا أني استشعرت أنني أحدث جسدا أصم، قرر الكف عن سماع صخب وضجيج البشر من حوله.
أخذت أتمتم في نفسي ما جدوى التحدث في أشياء لا طائل منها، وما فائدة الحديث عن جدوى الحياة ومتاعها أو حتى إسداء النصح والاستفاضة في حرمانية الانتحار أو الحلال والحرام، أمام شخص ذهب للموت بمحض إرادته!.
لبرهة من الوقت انتابني نفس شعور المارة من حولها بالخوف من الاقتراب منها أو التحدث معها، فهنا يسهل عليك التحدث مع حكيم صيني عاش في القرن الثاني قبل الميلاد أكثر من الحديث مع شخص فقد شغفه نحو الحياة، إلا أنني رأيت أن الحوار مع إنسان أقبل على الموت دون تردد أمر في غاية الشغف المغلف بالغصة.
"الدنيا حر يا ست ومش ناقصينك" كان هذا هو مفاد تعليق بعض ممن شاهدوا الموقف، وهو الأمر الذي دفع البعض الآخر للدخول في شجار جانبي مع من سفهوا من الموقف واتسمت مشاعرهم بالحدة تجاهه، أتذكر يومها أن درجات الحرارة قد ناهزت الأربعين، ونسبة الرطوبة قد تخطت حاجزا لا يطاق، بدا الجميع وكأنهم على فوهة بركان لا يحتمل أحدهم طرف كلمة من الآخر، اختلط لدى تفسير سلوك المارة وعصبيتهم المفرطة تجاه الموقف، مع السلوك العدواني للبعض الآخر، إضافة إلى السلوك المدمر للنفس والذي رأت فيه المقبلة على الموت ملاذها الأخير للخلاص من متاعبها النفسية والأسرية- بحسب ما علمته منها لاحقا-، وهنا راودني السؤال هل هناك علاقة طردية بين العنف من حيث النوعية والكمية وبين درجة الحرارة من حيث الشدة والفترة الزمنية؟ وهل لطبيعة الخطاب الموجه لشخص في موقف ما تأثيرا إيجابيا في تغيير وجهة نظره تجاه أمر معين وتبنيه وجهة نظر أخرى؟.
النظرة السلوكية للعلماء ودراسة السلوك البشري وملاحظته بطرق علمية ممنهجة تؤكد أن ثمة مجموعة من الأمراض السلوكية تصيب البعض خلال فصل الصيف خاصة مع الارتفاعات المتتالية لدرجات الحرارة والتغير المناخي الملحوظ، وأن تصاعد درجات حرارة الصيف والإجهاد الحراري يحدثان تغيرات بيولوجية في جسم الإنسان ينتج من خلالها سلوكيات واضطرابات بل وأمراض نفسية تختلف تماما عن بقية أيام السنة، مثل الاضطراب العاطفي الموسمي، والسلوك العصبي والعدواني، حيث تتأثر صحة الإنسان ومستوى طاقته بدرجة حرارة الطقس المحيط به، فيفقد صوابه وتركيزه وتسهل إثارته في المواقف الطبيعية التي لا يثار فيها أحد.
الأمر ينعكس بطبيعة الحال على حالة السلام النفسي داخل الأسرة الواحدة، فنشهد تصاعدا في الخلافات الزوجية، ومشاجرات مستمرة، وحده في الحوار، وارتفاعا لحالات الطلاق في فصل الصيف عن بقية فصول السنة، وفي هذا الصدد تشير إحدى الدراسات المتعمقة في positivepsychology، إلى أن أعداد المرضى العقليين والنفسيين المترددين على المصحات النفسية ترتفع في شهور السنة التي تزيد فيها نسبة الرطوبة ودرجات الحرارة.
بيد أن هذا لا يعني أن لدينا من المبررات ما يجعلنا نفقد السيطرة تماما على ردود أفعالنا حيال موقف ما، فلا يمكن أن نؤسس لمجتمعا إنسانيا إلا بإعمار الجانب الأخلاقي وترسيخ مفاهيم الحوار فيه أولا، فعلينا طيلة الوقت إعادة هيكلة أفكارنا بما يتناسب مع طبيعة الموقف والشخص، واختيار خطابا مناسبا للتحاور معه بعيدا عن الظلامية والعصبية والتأثر بالأجواء المحيطة، والوقوف جيدا على كيفية التفاعل مع الأشخاص ومعرفة أدبيات الحوار، وحسن الاختيار بين توجيه الجمل الطويلة أو العبارات المقتضبة بحسب الموقف ومستوى إدراك الشخص نفسه.
وفي هذا الشأن تقول كاتبة الخطابات السابقة في البيت الأبيض "سارة هورويتز"(Sarah Huritz)، التي كتبت أكثر الخطابات تأثيرا لـ "ميشيل أوباما " زوجة الرئيس الأمريكي الأسبق "باراك أوباما"، إنه ينبغي لك أن تتحدث باستخدام النبرة الطبيعية للشخص، حتى يصل الخطاب إلى هدفه ويكون الحوار مع الآخر مجديا، فقد كان من ضمن الروائع التي كتبها "هوروتيز" الخطاب الشهير الذي ألقته ميشيل أوباما "وقالت فيه:" أستيقظ كل صباح في منزل بناه العبيد "، فهو الخطاب التمييزي في وجهة نظر البعض والذي لم يمر مرور الكرام، فقد انزعج الكثيرون وقتها من العبارة، بيد أن ميشيل أوباما كانت تعي جيدا تاريخها الأميركي، وتعرف كيف تنتقى المصطلحات والعبارات لتخرج بخطاب أكثر تأثيرا في من حولها، ومن ثم كان لوقع وصفها وخطابها الرنان تأثيرا كبيرا في تغيير وجهة نظر المجتمع الأمريكي صوب قضية العبيد الذين بنوا بقهرهم جدران البيت الأبيض صرح الحرية وأحد أكثر المباني المشهورة في العالم، الذي أصبح فيما بعد رمزا للديموقراطية.
 

تم نسخ الرابط