انقضت الأيام الأولى من إقامتنا في هذه القرية، اعتدت الاستيقاظ على صياح الديكة وأجراس القطيع خلف الرعاة، لا أنكر أن من اعتاد حياة المدينة قد تزعجه القرية قليلاً، كنت أظن أن أرى فقرا مُدقعا يتسلل في الأرجاء، لكنني وجدت جمالاً وهواء نقيا بين أصحاء لم تُضعفهم شوائب المدنية.
دعوني أصطحبكم إلى هذه الغرفة ذات الباب الخشبي الذي يرفض الغلق بإحكام فيرتد دائماً مُحدثاً صوتا كصرير أبواب الزنازين، لا شيئ هنا سوى هذا السرير الحديدي تكسوه طبقات من أشياء صُنعت من الكتان والصوف الرديء ظنا أنها تبعث الدفء.
في الزاوية البعيدة المواجهة للباب توجد طاولة عليها الكتب والأوراق، تحتها كيسٌ به كميات هائلة من البذور وكسرات من الخبز الجاف والجبن الذي جف أيضاً، فقد تركته زميلتي هنا لم تتناوله ولم تفكر في الاستغناء عنه، عذبتني بإهمالها..
تُرَى كم قنينة ماء هنا؟! وكم من مضحكات مرت بنا، أذكر ذلك اليوم الذي سمعت فيه قرعٌا قويا على الباب فذهبت بخطوات ثقيلة وحروف متوجةٍ بغمام النوم، فوجدت رجلاً يحمل العديد من كراتين البيض" ثم سألني متجهماً : كم عددكن ؟
أجبت : نحن تسع، لماذا؟
استطرد مانحاً لي عددا كبيرا من الكراتين قائلاً: تفضلي، لكل فتاة سبع بيضاتٍ في اليوم وهذا نصيب الأسبوع.
ثم مضى وتركني وحدي مع عقلي الذي يحاول استيعاب ما ذكر، ولا أحد يعلم أني متشبثة بمكاني أُحصي بذهني عدد ما سيصرف لنا لمدة أربع سنوات وكم دجاجة ستنفق عمرها علينا.
وهاك اليوم الذي أرادت فيه مالكة السكن أن تحصل قيمة الإيجار، ولحظها التعس انقطع التيار الكهربائي وهي في منتصف الدَرَجْ فأكملت الصعود، وعندما فتحت زميلتي لها الباب سمعنا صوت صراخها الشديد، ولمَ لا وقد كانت تكسو وجوهنا جميعاً هذه الأقنعة اللزجة البيضاء المخصصة للعناية بالصبايا، وقد نسينا تمام النسيان ما قد بدا لها مع هذا الضوء الخافت من هذا القنديل الصغير المسلط علينا، فقد ظنت أننا متعمدات إفزاعها، وكان هذا كافياً لأن تُقاطع شقتنا للأبد، سامحها الله فهي من أتت لنا بهذه المصابيح الزيتية، فبأي عصرٍ نحن؟
كان مزاحنا جميلاً، وكانت قلوبنا كجنةٍ عذراء، رقتنا في حشمة ووقار ولطفنا في عذوبة تامة. تعلمنا أن الأشياء والأشخاص لا يتميزون إلا بما نضعه على رؤوسهم من ظنٍ ووهمٍ واعتقادات، أما الأماكن فتفرض وتطبع وشمها الغائر على قلوبنا ودمائنا.
كنت أطيل النظر من نافذتي إلى السماء كسارقٍ يتوارى بالظلام عند احمرار الشفق وهجوم الظُلمة فتبدو أنوار النجوم تُراقص رؤوس الأشجار والمأذنة المستديرة هناك، كانت النوافذ في مواجهتي مظلمة ولا يوجد خلف الجدران ما يُقلق سكون الليل وسكوني، معاً ننتظر الصباح.
وفي يوم العطلة نذهب إلى هذا المقهى المخصص للفتيات، أجلس مع صديقتي في "صالة البلياردو" تتطلع عيوننا إلى الخارج فنرى بعض الصديقات تجهل كثيرا من روعة أنفسهن تتحدثن مع شباب يتشدق بعبارات النبل والقوة في عمر الزهور، ولا أنكر أن هذا المشهد بعث بداخلي حوارا مع هذا البعيد المجهول..
نعم أنتظرك بالآمال الغضاب فكن لي سيد العصور وخلا وفي الهوى والغرام، كن لي فجرا ووحيا وإلهاما، كن لحناً عبقرياً رفيع المقام.