الإثنين 16 سبتمبر 2024
الرئيسية عاجل القائمة البحث

حين تجسد الرواية معنى الحياة وتعيد كتابة التاريخ.. 

قليلة هي الأوقات التي يشعر فيها القارئ بمتعة غير عادية ورغبة حثيثة في عدم انتهاء الرواية التي يقرأها، وهذا ما يفسر لنا خلود بعض الأعمال الأدبية وخفوت الكثير.. أقول هذا بعدما انتهيت مؤخرًا من قراءة الرواية الملحمية "الحرب والسلم" للأديب الروسي ليو تولستوي، والتي تنقسم إلى ثلاثة أجزاء ومجمل صفحاتها يتجاوز 1800 صفحة.
تدور الفكرة العامة للرواية في الفترة من 1805 وحتى 1812، وتركز بشكل أساسي على الحربين الذين خاضتهما روسيا في عهد الإمبراطور ألكسندر ضد فرنسا في عهد الإمبراطور نابليون.. الأولى في 1805 والثانية في 1812 وكان هدف نابليون منها إجبار إمبراطور روسيا على وقف التجارة مع بريطانيا.
يسرد لنا تولستوي في ملحمته، المعارك العسكرية التي دارت بين الروس والفرنسيين وانتهت بدخول نابليون إلى مدينة موسكو، ليجدها خربة ومحترقة وقد هجرها سكانها، فيقبع بها لبعض الوقت، وحين يحل الشتاء يفشل في مواجهته هو وجنوده، ويضطر للانسحاب في ظل إصرار الإمبراطور الروسي على عدم الاستسلام.
ولأن متعة الروايات ليست في الحكاية بل في التفاصيل والسرد والوصف، فإن رواية "الحرب والسلم" التي نحن بصدد الحديث عنها تعد نموذجًا مثاليا للكتاب الذي يشبع عقل وقلب قارئه، حيث تتسم بالكثير من المتعة على مستوى السرد والتفاصيل، ومن خلالها قدم تولستوي نفسه ليس كروائي فقط ولكن كمؤرخ أيضا، مؤرخ له وجه نظر مختلفة عن وجهتي نظر المؤرخين الروس والمؤرخين الفرنسيين.
لقد حاول تولستوي من خلال ملحمته تلك أن يعرفنا طبيعة المجتمع الروسي في تلك الفترة، خاصة طبقة الأمراء والنبلاء وطبقة الإقطاعيين الغنية، وكيف أن الحرب نجحت في توحيد المجتمع "الأمراء والفلاحين" لإنقاذ إرثه ودولته.. 
يحكي الأديب الروسي العظيم بشكل أساسي عن خمس عائلات أرستقراطية وهي: آل بولكونسكي، آل بزوخوف، آل كوارجين، آل دروبيتسكوي، آل روستوف، وبين تلك العائلات نصادف العديد من قيم الحب والصداقة، ووقائع الألم والفقدان، كما يغوص بنا تولستوي في أعماق شخصياتهم، وفي تفاصيل حياتهم الفارهة وحفلاتهم وصالوناتهم واتخاذهم اللغة الفرنسية للتحدث بها.
وفي انسيابية سردية رقيقة وراقية يبحر بنا الكاتب في شوارع روسيا القيصرية في فترة حكم ألكسندر الأول، فيقوم بوصف القصور الفخمة والمنازل المنمقة والأنيقة وقاعات الأوبرا الفارهة، وساحات المدينة وكنائسها وطرازها الجميل، ومن مظاهر الحياة في السلم يبحر بنا إلى الحرب وويلاتها، ليقدم لنا وصفًا دقيقًا وحيًا للمعارك الحربية كمعركة أوسترليتز، ومشاعر الجنود والضباط، وقيمة اللحظات التي يجد فيها المرء نفسه مسئولًا عن اتخاذ قرار سيحدد مصير ومستقبل ليس روسيا فقط، ولكن أوروبا وربما الإنسانية كلها.
ومن المفارقات التي تكشف لنا أن تولستوي لم يكتب الرواية بل عاشها بكل تفاصيلها، أنه قضى خمسة أعوام يكتب وينشر في أجزائها بمجلة "المراسل الروسي" من العام 1865 وحتى 1869، من أجل أن يؤرخ بوجهة نظره الأدبية الخاصة لسبع سنوات هي من أهم السنوات في تاريخ روسيا.
في تلك الملحمة، أنصف تولستوي بعض أبطال الحرب الذين ظلمهم التاريخ مثل قائد الجيش الروسي كوتوزوف، وقدم لنا مجموعة من الأبطال وليس بطلًا واحدًا، أندريا بولكونسكي، ماريا، الأمير العجوز، پيير، ناتاشا، نيكولاي روستوف وغيرهم.. كما قدم لنا أيضًا فيضًا من الأفكار والمعتقدات حول الحياة والإيمان والموت والماسونية والعدو، وحول تقدير الأمور وكيف أن الأشياء المهمة في نظر أصحابها قبل الحرب باتت تافهة وعديمة القيمة بعد تجربة الحرب وويلاتها.
إننا إذ نقرأ "الحرب والسلم" نجدنا أمام نظرية مفادها أن النجاح في الحرب لا يتوقف أبداً على الموقع ولا التسلّح ولا حتى العدد، بل على الشعور الذي في نفس الجندي، ومدى حب المرء وإخلاصه لوطنه وإحساسه بالمسئولية العامة، وانتمائه للعائلة ورغبته الحثيثة في الحفاظ على الروابط الإنسانية.
وعلى الرغم من قناعة تولستوي بأن لا أمل في تحقيق السلام، حين يقول "الإنسان بطبعه بربري دموي، ولو أردت تحقيق السلام في الأرض، فعليك أن تُغيِّر دماء الناس إلى ماء، وهذا لن يتم"، إلا أنه لا يكف طوال الأحداث عن التذكير بأهمية أن يسود السلم، ويحث القراء بشكل - غير مباشر - على ضرورة البحث عن الهدوء والراحة والسعادة لأنفسهم؛ لأن "الموت سيأتي ذات يوم، وسينتهي كل شيء".

تم نسخ الرابط