(القاهرة – 1979)
في هذا العام كانت مصر في حالة إعادة ترتيب الورق، وكان العرب في حالة قلق، وكان الشرق الأوسط في حالة أرق.
وما بين "الورق" و"القلق" و"الأرق" تبدلت الكلمات، وتغيرت النظريات، وتباعدت المسافات، ودخل حديث المبادرة مكان خطة المناورة، ولم تعد النهايات بنفس حماس ووهج وقوة البدايات. ما جعل البعض يشعر بغياب وفقدان "روح مصر".
ومصر- التاريخ يقول ذلك - مهما كان - وما سيكون - تظل مسكونة بروحِ ساحرة، صابرة، صامدة، قد تغيب بعض الوقت لكنها لا تموت - ولن تموت - في أي وقت من أوقات التاريخ والجغرافيا.. والزمن!
°°°
(القاهرة – 1968)
في ذلك العام وبعد شهور من النكسة وخطاب التنحي الشهير وخروج الجماهير الكبير إلى الشوارع بعدما أعلن الرئيس جمال عبد الناصر قوله:
"لقد قررت أن أتنحى تمامًا ونهائيًا عن أي منصب رسمي وأي دور سياسي، وأن أعود إلى صفوف الجماهير، أؤدي واجبي معها كأي مواطن آخر".
وردت الجماهير:
(لا تراجع ولا استسلام وتلك هي الروح، الجميلة، الأصيلة، العميقة الخالدة) لتبدأ بعد ذلك بساعات خطة الخروج من تداعيات الروح (المهزومة والمحزونة) إلى روح المقاومة، وبدء حرب الاستنزاف بحثًا عن "روح" مصر الصابرة المنتصرة، وليست الروح المُنكسرة. ومنذ هذه اللحظة انطلقت أول رصاصة في معركة عظيمة عرفت باسم حرب الاستنزاف بحثًا عن "روح" مصر! الحقيقية التي حضرت في أكتوبر 1973.
°°°
(باريس – 1969)
بعد بدء المعارك بروح مصر الحديثة سافر الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل إلى أوروبا لإجراء سلسلة لقاءات فكرية وسياسية وثقافية بحثًا عن "روح مصر" في هذا الظرف التاريخي الاستثنائي وكانت البداية من قاعة فندق شهير في قلب باريس.
°°°
(الفندق - بعد 10 دقائق)
على مقعده جلس هيكل ينتظر الكاتب والمفكر الفرنسي الشهير أندريه مالرو - شغل منصب وزير ثقافة فرنسا لسنوات طويلة - حيث كان على موعد معه محدد سلفًا.
فنجان قهوته أمامه، وسيجاره الشهير في يده، والسؤال الذي جاء من أجله مازال يدور ويلف في رأسه، وبصره يتعدى النافذة الزجاجية لمطعم "لاسير" إلى الشارع الباريسي الغارق في الهدوء.
بعد دقائق جاء "مالرو" وجلس وعلى وجهه ابتسامة ترحيب ثم سأله:
"لماذا جئت يا صديقي الآن وتركت القاهرة"؟
- ابتسم هيكل وهو ينفث دخان غليونه بطريقة هادئة في الفضاء الرحب أمامه ثم قال: سألني صديق منذ أيام قائلًا:" أحيانًا - في لحظات تاريخية فارقة - قد يشعر المرء بالاغتراب في مصر؟ وانتظر منىِ الرد على قوله هذا...وأنا أعرف - أو مقتنع - إن مصر ما هي إلا روح تكوين مركب. روح من صبر لا نهاية له.. روح من قلق بغير حدود!
روح راضية وهي تبحث في كل اتجاه، ساكنة وهي تتحرك طول الوقت، صامتة ولكن صوت صمتها مسموع ليل ونهار" قال هيكل ذلك ثم أشعل غليونه مرة أخرى والتزم الصمت.
رد المفكر الفرنسي العظيم قائلًا: "هل تعرف يا هيكل لماذا؟"
هز رأسه وقال: "أعرف لكنني جئت أسمع"
شرد مالرو بذهنه وأطال بصره ناحية الشارع من خلف الزجاج ثم قال:
"لأن مصر هي التي اخترعت الأبدية".
قال ذلك ثم سكت.. وابتسم هيكل ولم يعلق!!
°°°
(القاهرة – 2023)
.. هذه هي "روح مصر" بعد 67 - وقبل 67 - وحتى اليوم - وبعد اليوم - هذه الروح تستطيع - ويحق لك - أن "تعتب" عليها، وتستطيع - ويحق لك – أن "تغضب" منها، لكنك - كما يقول هيكل ويؤكد مالرو - لا تستطيع الإفلات منها أو "الاغتراب" فيها!
لماذا؟!
لأن مصر "روح" اخترعت الأبدية!
*الأحداث حقيقية والسيناريو من خيال الكاتب