الجمعة 22 نوفمبر 2024
الرئيسية عاجل القائمة البحث

دائماً كان الهدى أعظم من الضلال، فهل كان هدى قدمي لوطأة هذا المكان عظيمًا أيضا؟ لحظات الحزن هنا تمثل أجيالا وتواريخ، فهذا البيت كمدينة عتيقة هُدِمَت لإبادة المماليك بها.
بينما كنت جالسة في خور ونصب، انتصبت من انحناءتي كرجل عجوز متهدم يتحامل على نفسه بمشقة، وأخذت أكمل تجوالي هنا لأكحل عين المكان بزجاج الذكرى، ذكرى غابة مسحورة شديدة الهدوء، أنظر الآن إلى هذه الشرفة والتي كانت دائماً من ثُغُورنا البواسم، فقد كان هذا المقعد لأبي، يجلس عليه دوما في السادسة مساءً، صيفاً أو شتاءً.. في الصيف نتحدث سويا كثيراً ونقرأ أكثر وأكثر مع تهادي صوت أم كلثوم إلى مسامعنا تنشد تارة "أنا في انتظارك" وتارة "ودارت الأيام" وبعدها يأتي صوت الفريد الأطرش كما كان يلقبه أبي، فأسمع دندنة والدي معه، ليملأ البيت بهجة وسرورا.
في الشتاء أذهب إليه في نفس المكان مستفسرة عن بعض دروسي الأزهرية فقد كان شيخاً عالماً، وبعد المذاكرة نستمع إلى فيروزة الشام فنشعر بأنفاسها عبر الأثير تدفئنا، كم تزودنا بالحب للأعوام البواقي، ولكن مع مرور الأيام كانت نفس الشرفة شاهدة على حدث يصعب نسيانه، فقد كان أبي يحتفظ بهذه النسخ القديمة من الكتب النادرة في الطابق السفلي الذي يقطنه هذا العدو، وبعد وفاة أبي قرر هذا الثعبان أن يذيق قلوبنا ألما ليحولنا إلى قبسٍ أقسى من جبروت السعير، حكم على الكتب بالإعدام حرقاً على مرأى ومسمع من الجميع. حاولت يومها التقاط كتاب جذبني غلافه، فخلعه من بين يدي أو من بين أضلعي، ودفعني على الأرض مكومة، وانفلت شعري على وجهي محاولاً إخفاء هذا الرعب عن عيني، ثم اقترب وسحبني منه كمن يَجُر غنيمته الذبيحة ليقدمها قربانًا، ثم نظر إلي متحكمًا أن اصعدي بجانب أمكِ وأخيكِ اللذين يتابعان في زعر وبكاء وصمت بغيض، فمهما مفغوران وحدقاتهم متسعة دامعة.
نهضت وتراجعت خطوات للوراء حتى التصق جسدي بجدار البيت واستسلمت لصعود درجه. رأيته يأمر هذا الغريب عنا والقريب من زوجته أن أشعل النيران، فنفذ مسرعا كأنه أوحي إليه بأمر إلهي معاذ الله، ورأيت هذا الشيطان يبتسم في نصرٍ وعزة، كمن نصب نفسه راهباً ليطهر أرض الرب من آلام عضال، وكنت أنظر إلى وجوه الجيران في شرفاتهم أتمنى معجزة لم تحدث.. أين هم الآن وفود الواعظين والأتقياء المؤمنين؟.
علت ألسنة اللهب وتطاير الشرر، والشر، أعلم جيداً أن الذي يحترق هو الكتب، ولكن لا أعلم لماذا لم أرَ سوى جثمانه يستغيث، كأننا نقتله ثانيةً عمدا، كأننا نعذبه حرقا، كل ما كان يجول في خاطري أن ألقي بجسدي فوق هذا الجمر لأحتضن جسده الذي أراه وحدي، ربما يطهرني هذا من خنوعي عن حماية أوراقه. 
الآن أصبحتُ كمن فقد جندلاً يحمي أرضه من الغزاة، كل شيء في هذا اليوم كان يئن، حتى ناح الحمام من ألم الفراق، فيا أيها الدخان الصاعد إليه في السماء، كن للغائب الرقيق رسولي، فقد كان مثل كائن سماوي التقتطه الأرض واسترده التراب. 
أعلم أن هذا الألم عميق لا يحتمل ولكن بدونه ربما تحولنا إلى أشباح بلا عواطف، ودائماً ما كنت اسأل نفسي: هل يوجد مثل هذا الأب في العاشقين؟، هل انتظر مثل هذا الملاح الجسور الذي يحول قلبي من مكان إلى مكان؟..

 أيا حبيبا بكى من طول التأبي والعصيان

فلم أعد أُطْرَب من معزوفة بكاء

 فقد تحولت من الجلمود بأساً لا يرى إلا الإباء

فكن لي عاشقاً أتخذ من جوف يديه رداء

ولا تحكم على قلبي بهوىً عظيم الشقاء.

تم نسخ الرابط