الوجود تختزله الحكمة في "مرآة جديدة لإديت بياف" لـ"محمود سيف الدين"
في ثمانٍ وتسعين صفحةً من القطع المتوسط صدر ديوان "مرآة جديدة لإديت بياف" للشاعر محمود سيف الدين، عن سلسلة الإبداع الشعري بالهيئة المصرية العامة للكتاب.
يطرح الديوان في مجمله تجربة شعرية لها خصوصيتها من حيث البنية والتشكيل اللذين يستوعبان مجازًا محتدمًا يُعبدُ طريقًا نحو رؤية وجودية تتمحور حول انعكاسات الأنا والآخر عبر المواقف المتباينة، ومن ثم تخلص إلى رؤية الإنسان الذي يحب ويكره ويخاف ويشقى ويأمل ويتأمل ويبلغ مستويات متراتبة من الحكمة، والتي تلخص بدورها موقفًا متناقضا من حيث استيعابها..
"الحكمة أخفُ من جناح فراشةٍ،
وأثقلُ من أقدامِ فيل..
قل مثلًا على الدنيا السلام"
وعبرَ لغةٍ تحقق هذا المزيج المتوازن بين الشفاهية والكتابية، تتردد أصوات الوجود والموجودات، وتنعكس صورها في تشكيل يستدعي الحواس التي تُحفزها طاقة الحزن المتدفقة حتى تتجلى بتبادل للأدوار، بحيث يُحقق المجاز في الديوان مستوى من التماس مع كل رؤية. نلمح مثلا في قصيدة "مرآة جديدة لإديت بياف"، والتي رأى الشاعرُ أن يكون عنوانها عنوانًا للديوان، تواصلًا بين الانطباع العام عن المطربة الفرنسية الشهيرة، كأيقونةٍ للفنِ والمأساةِ مًعا، دون تتبع التفاصيل، للإشارة إلى هذه الجدلية بين الألم والتجلي..
لأنَّ يدَ الربيعِ مغلولة إلى عنقه
الأيامُ البذيئة تمرُ من الفتنةِ إلى الهمجية
حتى تتجاوز فكرة الأضداد مجرد المفارقة إلى التخليق، إذ تنتج هذه الملامح للإنسانِ الذي يقاوم بطاقةٍ روحية ما يحولُ دون إطلاقِ الحرية لفعل الوجود..
"همسٌ ناءٍ وبكاءٌ نحيل".. "الحياةُ ورديّةٌ في الزحامِ المتلاشي.. الطبيعةُ لا تكفُّ عن الثرثرةِ.. الفوضى جُرحٌ هادئٌ في القلب".
ولا تخلو الرحلةُ من السؤال الذي يمثل في حد ذاته دافعًا لاستكمالِها: " لماذا إذًا.. نعتني بالشمسِ البعيدةِ عن أطرافِ أصابعنا"
وعبر صورٍ تتفاوت في تكثيفها أو أخرى مركبة، يحلق ديوان "مرآة جديدة لإديت بياف" نابشًا الأحوال المتفاوتة لتجليات الذات الإنسانية وعلاقتها بفضاء تجربتها المتكررة بصورةٍ ما سواء في تباين أحوال الأنا أو ما يقابلها، في نظرة فلسفية من خلالها للحياة ككل، فنشاهد انعكاسات الذات في حوار النفس الداخلي عبر مشاهدٍ من الخارج، ففي قصيدة "حكاية للآخر" يتبدى الصراع الوجودي بين صوتين في جسدٍ واحدٍ لا يلتقيان إلا في نهاية المطاف كضرورة للاستمرار، ومن ثم اكتشاف بداية جديدة تليق بهذا التصالح
"استيقظنا معاً..
وأسقطنا الماء على وجهـَيـْنا..
ولم نكن نائميْن..
أو شيئاً من هذا القبيل
ارتدينا الجوربَ نفسه..
والحذاء..
وكنتُ أراه ويراني..
بدقةٍ في المرآة..
ومضينا معاً إلى سيارتنا..
ولأولِ مرةٍ..
لا نختلفُ على الطريق.."
ولأن الحياة هي الإطار الأشمل لصراع الوجودن احتلت نصيبًا كبيرًا من التأمل الذي أحالها لقطارٍ يُقل المسافرين نحو محطاتٍ إما يستقرون بها أو يعيدون قراءة المشهد، وكيف كان هذا القطار مجردَ لعبة بلاستيكية في يدِ الطفل المتعجل لخوض التجربة، والنادمِ بعد ذلك وهو ينظر من شرفة القطار في واقعه ومجازه
" انظر للطريقِ بعينيك القديمتين
اللتين تركتهما جوار كومةٍ من ألعاب الصبا
تذكرْ؟
كنتَ متعجلًا وقتها
قفزت إلى القطار البلاستيكي"
ليكتشف أنه غادر هذه المساحة التي يحتل فيها الخيال الجانح كيان التجربة في مهدها، ليجد ذاته وقد فوجئت بلحظتها الراهنة..
"وعبر هذه اللعبة القديمةِ يا هذا
باغتتك الأيام....
وجئتَ إلى هنا".
ولا يزال هذا الطفل الذي كبر فجأة في غمار موجٍ من الصراعات التي لا تنتهي إلى بنتيجةٍ لتأمل أو أسئلة لا شاطئ لها. إنها إذًا لعبة الأيام التي تمنحُ الفرص بمقايضة على حساب الهدأة فالمعرفة مقابل ثقل التفكير، والعمر مقابل الشقاء، وترتد الأمنيات على أعقابها لكن لا سبيل من عودة. وتبقى المحاولات سبيلا لقبول الواقع والتعايش معه
"خرجتُ وقلبي في نزهة
ولأنه كان الأكبرَ سنًا ومقامـًا
حملني ـ شاكراً ـ فوق ساعدِه"
وإذ تنجح المحاولة ينفجر الظل للخروج من دائرة التابع إلى الكيان المستقل الذي تنسحب إليه ثورة الحواس فيبدي رغبته في الطريق أو في ما يحب أن يكون
كنتُ مُتعجلًا بعضَ الشيء
حتى جذبتُ ظلي من ياقتِه
قبلَ أن ينكسرَ في استدارةِ جدارٍ
على مرمى بصر
دسستُه في جيبِ السترةِ المُنشّاةِ
وعَدَوْت
وإذ وقفتُ على خشبةِ المسرح المهجور
في سماءِ المدينةِ.. وهممتُ بإفاقتِه
خربشَ أوتارَ حنجرتي
وصرخ: لا
الإضاءةُ هُنا مُزعجة.
ويقول الشاعر فتحي عبد السميع، رئيس تحرير السلسلة إن محمُودُ سَيف الدِّين يستدعي شَبَحَ المُطرِبَةِ الفِرنسِيَّةِ الشَّهِيرَةِ؛ التي صَارتْ رمزًا من رُموزِ الحُزنِ البَهِي المُبدِعِ المُلهِم، لقَد تَحقَّقَتْ رَغمَ الآلامِ وحَلَّقَتْ عَاليًا رَغمَ مِيلادِهَا فِي القاعِ، لكن كيفَ تَتجَدَّدُ المِرآةُ بعدَ رَحِيلِ صَاحِبَتِهَا؟ هلْ المِرآةُ هِيَ ذَلكَ الشَيءُ الزُّجَاجِي المَعروفُ أم نَظرَتُنَا المَصقُولةُ للعَالمِ، نَظرَتنا التِي تتجدَّدُ كلَّمَا صَافَحنَا قَصيدَةً جَدِيدَةً تَجتَمِعُ فِيهَا الأروَاحُ والأشبَاحُ والأجسَادُ وكلُّ مَا نَعتقِدُ باستِحَالةِ اجتِمَاعِهِ معَ الآخَرِ.
فِي شِعرِ "مَحمود سِيف الدِّين" نَجِد "الآنَا" وَ "الآخَرَ" وهمَا يَعيشَانِ معًا فِي ذاتٍ وَاحدةٍ، المُستَيقِظ والنَّائِمُ يَتبَادلانِ الأدوَارَ، الوَاقِعِي والحَالمُ يَستَخدِمَانِ نَفسَ السَيَّارةِ المُتهَالِكةِ، لكنَّهُمَا فِي حَالةِ انفِصَالٍ، فِي ظهورِ أحدِهِمَا اختفَاءٌ للآخَرِ، ذلكَ هوَ الشِّقَاقُ الكَبيرُ، النِّزاعُ الدَّاخِلِي الألِيم، وحدَهَا المِرآةُ تَجمَعُ الشَّتِيتَينِ، وكلَّمَا ظهَرَ شَرخٌ كلَّمَا احتَجْنَا إلىَ مِرآةٍ جَدِيدةٍ، أو قَصِيدةٍ جَدِيدَةٍ، تَجمَعُ الأضْدَادَ، وتُحَقِّقُ التَّصَالحَ بينَ المَرءِ ونَفسِهِ".
من أجواء الديوان:
في فيلم كلاسيكي من زمن سحيق
حيث "نهارك سعيد".. تحية مناسبة جدا للأجواء
نلتقي دائما هناك بلا مبرر.. بلا معنى..
بلا أسباب حتمية نجني بعدها شيئا ما..
لا شيء لقاء الصفو يمكن الرهان عليه
وياقاتنا بيضاء رمادية من اشتعال الخطوة
وظلال السفر
سأتذكر بالمصادفة الريشةَ التي في باحة العين
ويصفق بابَك.. دونَ هوادةٍ.. هواء
سنجري إلى المذياع المعلَّق معًا
ونحن بعيدين لا نزال.. قريبين إلى هذا الحد
"الدنيا ريشة في هوا"
تسمعينها وأسمعها
حتى نخرجَ إلى الشوارعِ
نفتت جناحيْها.. نضحكُ قليلا
ولا نلتقي