"نظري بدءُ عِلتي"
أبو المغيث الحسين بن منصور الحلاج
لا يخفى ألم البصيرة على من مر برحلة الوعي، فهي تفتح علينا أبواب الجحيم، تأخذنا من مساحات الراحة الآمنة التي تعودنا البقاء بها في سُبات عميق لسنوات طويلة، إلى بحر متلاطم من الأمواج النارية.
سيل من التساؤلات التي نظن أنها لن تنتهي قبل القضاء علينا، هل بعض ما تفاعلت معه في حياتي السابقة وآمنت به واعتقدت صحته يمكن أن يصبح سرابًا؟ هل سأستطيع بناء معتقدات جديدة ومشاعر تجاهها والتصالح معها من جديد؟ هل هذا الإنسان كان أنا؟ هل نسختي الجديدة أفضل أم السابقة؟ هل النسخة الأفضل مني ستكون أكثر راحة لي وللآخرين؟
تبدأ في إدراك أن الأرض التي كنت واقفًا عليها لم تكن صلبة على الإطلاق بل كانت أرضًا إسفنجية طوال الوقت، ولكن خوفك من التغيير وسُباتك العميق منعاك من التحرك ولو لخطوة واحدة لتدرك إسفنجية هذه الأرض تحتك.
لقد بدأت تلك الرحلة من مكان آمن للغاية من جملة "التغيير هو الثابت الوحيد" والتي كانت عنوانًا لمحاضرة تنمية بشرية في المسجد الذي كنت أنتمي إليه وأدرس به في المرحلة الجامعية، لم أنسَ هذه الجملة قط خلال مسيرتي الحياتية بعدها، فقد كانت تعمل بمثابة المهدئ والمسكن للخوف الذي يأتي مع كل موجة تغيير تمر بحياتي أو بأفكاري، أهدأ وأفكر فيما كنته قبل هذا التغيير وما أصبحته أو سأصبحه بعده، منطقيته عقلانيته مزاياه عيوبه، وحينما أقتنع برجاح كافة التغيير أبدأ في خوض المعركة بثقة.
لكن هذه المعركة ليست سهلة على الإطلاق، فبعض التغييرات بسيطة- رغم عدم تفضيلنا لها أيضًا- مثل تغيير المسكن، العمل أو الهوايات والأنشطة. أما البعض الآخر فغير آمن على الإطلاق، مثل تغيير القناعات، المعتقدات، دوائر الأصدقاء أو الحالة الاجتماعية. فبعضها تغيرات فكرية داخلية تحتاج لكثير من القوة لتقبلنا في نسختنا الجديدة، واحتوائها، والتعامل مع الحنين لنسختنا السابقة، وقدر الأمان الذي وجدناه معها، خصوصًا لو كانت أفكارًا منتشرة حولنا ومرحبًا بها اجتماعيًا، ما يزيد الشك في نسختنا الجديدة، التي نحمل على أكتافنا وحدنا صحتها أو خطأها. وبعضها تغيرات خارجية ظاهرة للآخرين وهذا يعني دخولنا في مواجهة شرسة مع القطيع.
وهنا نجد أن نضجنا عبر السنين الذي ينتج عن تصالحنا مع فكرة التغيير، يسبب لنا العديد من الخسائر، سواء ماديًا أو نفسيًا أو اجتماعيًا. سوف نصاب أحيانًا بقدر من الوحدة وفقد الأمان المصاحب لعدم دعم المجتمع، سوف نخسر كثيرًا من المقربين الذين يرفضون اختلافنا حد القطيعة.
لكن هذا ثمن ليس باهظ لأن نلتقي لمرات ومرات مع ذواتنا ونتصالح معها، سنشعر بقدر من السعادة والرضا عن كل تغيير يحدث لنا واعتباره منحة لا ينالها إلا الأقوياء.
عندما تشعر بهذه السعادة عليك بالحذر، يمكن أن يسحبك التيار لمكان أبعد وأعمق في منتصف المحيط، يمكن أن تصل إلى شهوة التغيير، لعل أبرع من عبر عنها ميلان كونديرا في روايته كائن لا تحتمل خفته في رسمه لشخصية توماس والذي ظهر في هذا الاقتباس وهو يصفه قائلًا:
"كان يعرف أن لا أحد سيفهم حرفًا مما يقوله، وكان هذا الأمر تحديدًا يزيده رضا. كان يشعر بنشوة مفاجئة وغير متوقعة. تلك النشوة السوداء نفسها حين أعلن لزوجته بأنه لم يعد راغبًا في رؤيتها، لا هي ولا ابنها. تلك النشوة السوداء نفسها حين رمى الرسالة التي ضمَّنها تخلِّيه إلى الأبد عن مهنة الطبيب، في صندوق البريد. لم يعد واثقًا إطلاقا أنه يتصرف بشكل حسن، إنما كان واثقًا أنه يتصرف حسب ما كان يرغب".
هل جربت أن تترك نفسك لأمواج الأفكار المتلاطمة دون الخوف من الغرق في بحر الوعي؟ إنها حقًا تجربة تستحق المغامرة، فبالتدريب ستجد نفسك خفيف تطفو على وجه المياه كما لم تتخيل من قبل.