يوسف الجندي.. أول رئيس منتخب لجمهورية زفتى
في بلدة صغيرة على ضفاف نهر النيل بمحافظة الغربية، وبالتحديد في مقهى «مستوكلي» بميدان بورصة القمح، اجتمع عدد من شباب الجامعة والفلاحين والتجار، واتفقوا على إعلان الاستقلال وإنشاء «جمهورية زفتى»؛ للفت أنظار العالم إليهم تنديدًا باعتقال قوات الاحتلال البريطاني لسعد زغلول ورفاقه أحمد باشا الباسل ومحمد باشا محمود وإسماعيل صدقي ومكرم عبيد وغيرهم أثناء ثورة 1919.
اعتقال سعد زغلول ورفاقه
في 8 مارس 1919، اعتقلت قوات الاحتلال الإنجليزية سعد باشا زغلول ورفاقه، وتم نفيهم إلى جزيرة سيشل، فخرج المصريون مسلمون ومسيحيون وكل طوائف الشعب يستشيطون غضبا في شوارع مصر، ضد الإنجليز، وكانت تلك هي المرة الأولى التي تشهد خروج النساء في مظاهرات بقيادة أم المصريين صفية زغلول.
وكانت لتلك المظاهرة النسائية عظيم الأثر في نفوس المصريين، بدأ على إثرها أهالي مدينة زفتى بمحافظة الغربية، التفكير في شئ خارج عن المألوف لتسجيل اعتراضهم على اعتقال سعد باشا زغلول، فاجتمعت مجموعة ضمت كل من يوسف الجندي وابن عمه عوض الجندي المحاميان، ومعهم الشيخ عمايم والكفراوي والفخراني ومحمد أفندي عجينة صاحب مكتبة للأدوات المدرسية ومطبعة، واتفقوا على إعلان استقلال مدينة زفتى عن جمهورية مصر العربية المحتلة من قبل الإنجليز، وإنشاء «جمهورية زفتى»، ولاقت الفكرة ترحيب أهالي البلدة أجمع، حتى وصل الأمر إلى توسل زعيم إحدى العصابات المسلحة التي كانت تروع أهالي البلدة والقرى المجاورة للانضمام إليهم، ويدعى «سبع الليل»، والذي أعلن توبته أمام أهالي القرية وأبدى رغبته في قتال الإنجليز ليصبح بطلًا قوميًا، وأوصى منشد البلدة أن يتغنى ببطولاته في حالة وفاته.
إعلان جمهورية زفتى
وفي صباح يوم 18 مارس 1919، ذهب يوسف الجندي برفقة عدد من أهالي القرية إلى ضابط النقطة في البلدة، وكان يدعى حمد أفندي، والذي لم يتوان لحظة في الانضمام إليهم، بل سارع بفتح مخزن السلاح لهم والذي كان يعرف حينها بـ«السلاحليك»، وتم تكوين المجلس البلدي الحاكم، وتم اختيار يوسف الجندي رئيسًا له وإعلان استقلال مدينة زفتى، ليصبح يوسف الجندي أول رئيس منتخب لجمهورية زفتى.
تشكيل حكومة جمهورية زفتى
واستكمالًا لخطة المجلس الحاكم الجديد، سافر عوض الجندي المحامي إلى القاهرة؛ لإبلاغ الصحف المصرية ونشر الخبر، في حين كان العمل يجري على قدم وساق في جمهورية زفتى لتشكيل لجان الجمهورية الجديدة، فتم تشكيل لجنة التموين والإمداد والتي كان هدفها حصر المواد التموينية بالبلد ووضع دراسة لكيفية توزيعها على الأهالي استعدادًا لما هو قادم، كذلك تم تشكيل لجنة نظافة اهتمت بتجميل الطرق والإنارة، ولجنة الإعلام الذي رأسها محمد أفندي عجينة صاحب المطبعة، فقام بطباعة المنشورات السريعة التي تحكي الوضع الجديد في البلدة وآخر قراراتها، بل وصل الأمر لإصدار جريدة يومية سميت «جريدة جمهورية زفتى».
ولم ينس المجلس الحاكم ويوسف الجندي دور «سبع الليل»، فعهدوا إليه بلجنة الأمن والحماية، فجمع رجاله برفقه عدد من الخفر والأهالي القادرين على حمل سلاح، ووضع خطته لحماية الجمهورية الجديدة ومداخلها بتقسيمهم إلى مجموعات، تتولى كل مجموعة منهم جزءًا من المدينة.
وفي مساء يوم 18 مارس، وبعدما وصل الأمر لمسامع الإنجليز، قرروا إرسال قوة للاستيلاء على البلدة عن طريق كوبري ميت غمر، ولكنها لم تستطع مقاومة أهالي البلدة الذين تصدوا لها، لتعود أدراجها وتتمركز في بلدة ميت غمر.
وفي صباح اليوم التالي، حاول الإنجليز دخول المدينة عن طريق أحد القطارات القادمة والمحملة بالعساكر والعتاد، فخرج «سبع الليل» وجماعته إلى المحطة وقطعوا قضبان السكة الحديد لمسافة تزيد عن 15 كيلومتر حسب إحدى الروايات، فعجز الإنجليز عن الدخول مرة أخرى، فما كان من انجلترا إلا أن تعلن خلع السير وينجت لتهدئة الوضع في مصر، ولكن قرارها جاء دون فائدة، حيث بدأ المصريون في كل المحافظات بالسير على خطى جمهورية زفتى، ولجأوا إلى التخريب وقطع قضبان السكك الحديدة وخطوط الاتصالات وأسلاك التلجراف، فاضطر الإنجليز إلى التراجع قليلًا حتى تهدأ الأوضاع.
سقوط جمهورية زفتى
وفي فجر يوم 29 مارس 1919، فوجئ أهالي جمهورية زفتى، بعشرات المراكب التي تحمل جنود الإرسالية الأسترالية على شاطئ النيل، وفي لحظات أطلق وابلًا من الرصاص على الأهالي وكل من حاول عرقلة الجنود أو المقاومة، وبدأوا في البحث عن يوسف الجندي ورفاقه، وتخصيص مكافأة مالية لمن يرشد عنه.
وعندما هدأ الوضع قليلًا، تم تهريب يوسف الجندي ورفاقه إلى عزبة سعد باشا حيث استقبلتهم السيدة صفية زغلول في منزلها وقامت بإخفائهم حتى تم الإفراج عن سعد زغلول في 17 أبريل 1919.
ورغم اختباء يوسف الجندي ورفاقه وإنهاء استقلال زفتى، إلا أن قوات الاحتلال الإنجليزية كانت لا تزال تعيش حالة من الرعب، خوفًا من الانتفاضة التي شهدتها عدة بلدان أخرى، فعمدت إلى إنهاء الوضع بشكل نهائي، فأرسلت مجموعة من الجنود الأستراليين للقضاء على كل من ساهم في الانتفاضة، فما كان من «مجلس الثورة» إلا أن يقوم بطباعة منشور باللغة الإنجليزية وتوزيعه على الجنود، والذي جاء فيه: «أيها الجنود، أنتم مثلنا، وإننا نثور على الإنجليز لا عليكم أنتم، إننا نثور من أجل الخبز والحرية والاستقلال، والإنجليز الذين يستخدمونكم في استعبادنا يجب أن يكونوا خصومكم أيضاً».
وبالفعل امتنع الجنود الأستراليين عن اقتحام جمهورية واكتفوا بالتواجد بمحيطها فقط، فأرسلت قوات الاحتلال البريطاني تعليمات لتسوية الأمر ولكن بشروطها، والتي كان من ضمنها أن يسلم الأهالي 20 رجلًا منهم للجلد؛ حفاظًا على هيبة الدولة.
وللخروج من هذا المأزق، قامت «لجنة الثورة» بتسليم 20 رجلًا، ممن عرف عنهم مواليتهم للإنجليز والوشاة، لتقوم بذلك قوات الاحتلال بجلد عملائهم، وبذلك انتهت جمهورية زفتي التي استمرت على مدار أقل من شهر.