الجمعة 22 نوفمبر 2024
الرئيسية عاجل القائمة البحث

"لكل منا مكان أو رقعة أرضية معينة تُعيده إلى الزمن، تعيد إليه الحياة".
عندما هربت مني الأفكار تارة وتزاحمت تارة أخرى ما كان بي إلا أن قررت تبديل ملابسي سريعًا والنزول إلى الشارع، أستقل سيارة الأجرة حينًا، وأسير حينًا.
كم التقيت بأماكن سجلت تقلبات أيامي المضطربة، وقد تقص يومًا روايتي العجيبة وتؤرخ دونما قصد وقائع حياتية مزعجة، أماكن تنظر إليها فتشعر بوثبة الماضي فجأة.
مرت السيارة بي على هذا المسجد الذي كان يصطحبني إليه أبي، كم كنت قصيرة بالنسبة له، وعشر خطوات مني تعادل واحدة يخطوها.
حقًا هناك أماكن تأمرك بأن تنسى قلبك وما يشغله، وهذا مكان لا وطن، وهذا وطن لا مكان، وهنا لي الكثير، وهناك لا أملك الفتات.
ها أنا الآن في هذا الممر من الشارع الخلفي لمدرستي القديمة أمام بازار كنت أقتحمه دومًا إبان خروجي من مدرستي، أذكر جيدًا تلك الصورة التي كنت أتشبث أمامها لكهلٍ في الزي الألماني القديم وقد بدا شامخًا يمتلئ قوة وتعلو تقاسيم وجهه خيوط بها معنى الحياة العميق، كم أقسمت مرارًا أن لا رسامًا تقوى مخيلته على تصويره مهما حاول.
وهذه الكنيسة العتيقة وصوت الترانيم داخلها تجذب قلوب من يفهمها، وتداعب خيال من يجهلها، ملحق بها هذا الدير القديم، كم رغبت بدخوله دائمًا، إلى أن سنحت الفرصة ووطأته قدمي يومًا مع صديقة لي، دعتني إليه بعد ما علمت رغبتي الشديدة لرؤياه، أذكره وأذكر جيدًا هذا الخادم الطيب، والذي ظن يومها أني الطبيبة الجديدة وظل يسترسل في الحديث عن ألم صدره وهذا السعال الذي يلازمه، كم ضحكت وأنا أشعر بالفشل عن إيقافه ليسمعني.
استيقظت من شرودي على صوت السائق لينبهني أننا وصلنا، ولحظي التعس، أنزلني قبالة مكان لم أكن أحب أن أتذكره برحلتي هذه، فهذا بيت يسكنه من قاموا بإيذائي، ابتسمت خفية بعد أن تذكرت هؤلاء البشر الذين عجزت عن فك شفرات عقولهم ويكأن حياتهم كُتِبَت بخطٍ سرياني سميك، وتمنيت لو قابلت أحدهم حتى أخبره بأن يُهَيئ قلبه للفزع مني، فقد يكون الخاسر لكل شيء هو الأخطر على الإطلاق.
تركت لقدمي العنان لتصل بي إلى مكان سري كان بيني وبين صديقة عمري، بين عمارات شاهقة على نهر النيل، كنا نجلس به سويًا قبل الغروب، نحكي به حكايات الصبايا بمثل عمرنا وقتها، وجدت كل شيء متروكًا على فطرته الأولى، العشب، النيل، عطر المكان.
جلست وتخيرت لنفسي من هاتفي موسيقى لبيتهوفن وتركتها تودي بي إلى انعدام اتزان محبب.
وتذكرت عيون العاشق لتصل بي إلى عنان السماء، كم تمنيت أن يكون معي لينظر إلي، ويتهجى وجهي حرفًا حرفا.
كم وددت أن أفتح له أحد أوردتي لتكون مسكنًا له بعدما فقد دربه، كم تمنيت أن أخبره أنه كسفينة نوح لي، أو آخر طائرة تُقلع بناجين من بلاد الحرب، فقلبه هو المدينة الأكثر عدلًا وأمانًا على مر العصور.
تنبهت من أحلامي على صوت كلب يلهو بعيدًا، ليجعلني أنظر أكثر لهذا المكان الممتع، فكم ترويني هذه الأماكن مثلها مثل الكلمات، فلولاهما لمات قلبي عطشا.
وعدت قلبي أن أصطحبه هنا مرة أخرى معه وحده، لنشعر أننا نحيا هنا .. لا زلنا .. ما ارتحلنا .. نختلس الحب مما تراءى لنا .. في لحظةٍ، في همسةٍ، في غفوةٍ، لنثبت أننا ما غفونا.
 

تم نسخ الرابط