في قريتنا يستيقظ الناس على صوت جدي الشيخ محمد قابيل يؤذن للفجر، فكأن صوته تصريح للشمس بأن تخرج من حجابها فتقتل الدجى وتحيي الصباح، وترسم خطوط الشفق في الآفاق البعيدة أصوات العصافير، وتساقط أوراق الشجيرات في الخريف، نسمات الهوى تداعب أناملي.
يعود جدي إلى البيت بعد الفجر يفرش الحصيرة في البهو ويفتح مصحفه برفق ليقرأ ورد اليوم. أتسلل من سريري ذاهبا إليه أضع رأسي بين كفيه في طقوس محببة إلى قلبي، مهما تكررت كل يوم. يمسد على شعري ويستمر في القراءة. أشعر بأن صوته لا يشبه شيئًا على الأرض، حتى إن الماشية في حظيرة المنزل تقف لسماع صوته كأنها تفهم ما يقول. وتهدأ الفراخ من حولنا. ويزداد بياض شجرة الفل ويفوح عطرها. فيحول صوته المنزل برمته ربوة من ربى الجنة.
عندما كان يغيب عن البيت ليذهب إلى القاهرة ليقرأ في محافل الأمراء كان كل شيء يشعر بالوحدة والخوف حتى حجارة البيت.
عندما ترى وجهه تشعر بأن حلاوة القرآن وسكينته قد تركت آثارها عليه، فلا تراه إلا بشوش الوجه مبتسمًا. فجرى حبه بين الناس كالماء في أغاديرها وذاع صيته في كل أرجاء المحروسة. وسكن في قلوب القاصي والداني.
عندما يحدثني بعد ورده الصباحي عن مغامرته في بلاد الصعيد البعيدة التي ذهب إليها ليحيي حفلا أو عن ضخامة قصور الباشوات في القاهرة كنت أتمنى ألا ينتهي الحديث أو يعكر صفونا أحد، حتى تأتي جدتي بالفطور فيقربني جدي إليه ويقطع الخبز أمامي قائلا ما من شيء أحب إليّ في الدنيا منك يا محمد، فأنت تحمل اسمي وقلبي.
كان هذا حالًا عابرًا تمنيت لو ظل إلى أبد الدهر، فلم أرَ جدي الشيخ محمد قابيل ولو مرة في حياتي، وأكثر ما يلؤمني أنني حتى لم أسمع صوته الندي الذي كان يتغنى به الجميع.
لكننا نعيش على سيرته العطرة، وسكن حبه قلوبنا بما سمعنا عنه وكأننا عايشناه طوال حياتنا، فرحمة الله عليك جدي الحبيب وأسكنك الله فسيح جناته.