القصص مختلفة والآلام واحدة.. حكايات سيدات القصر
توجد العديد من القصص والحكايات التي تقشعر لها الأبدان داخل دار سيدات القصر «زهرة مصر» للكبار بلا مأوى.
العديد من الأوجاع والآلام، لكل سيدة منهن مغامراتها مع الحياة، الحظ لم يكن حليفها فجميعهن خذلن على أيدي أقرب ما لهن، تحتضن جدران الدار العديد من الآلام، توجد الأم التي تخلت عنها ابنتها، والابنة التي تخلت عنها والدتها، والزوج الذى ألقى بزوجته وهي تحمل جنينها بين حشاياها، في الطرقات، لعتم الليل وبرد الشتاء، الذي لا يفرق بين من هو بمأوى أو بلا.
ما ذنبهن وماذا فعلن لكي يتلقين كل هذه الصدمات، فكم من ندوب تبقى آثارها على أجسادنا لسنوات، ولكن ماذا عن ندوب القلوب الذي تركت آثارها في جوف النساء اللآتي تشردن في الشوارع وتخلى عنهم الأهل والأصدقاء.
منذ فترة طويلة شاهدت مقطع فيديو لشابة تدعى"آية" مشردة في إحدى الشوارع، لم تكن حينها بصحة جيدة، كانت ترتدي ملابس مغطاة بتراب الطرقات، لم تكن بكامل قواها العقلية، الحزن والاكتئاب تارك بصماته على ملامح وجهها الذي كان جميلًا في الماضي، وفي المقطع ذاته، رأيت شابة في بداية الثلاثينات من عمرها تسمى "سمر نديم"، وشهرتها "زهرة مصر"، حقًا تشبه الزهرة في رقتها ولين قلبها، تلك الشابة التي قررت أن تفني أجمل سنوات عمرها في إنقاذ الكبار بلا مأوى.
حاولت تلك الزهرة أن تأخذ بايدي "آية"، وبالفعل أخذتها وحاولت أن تعالجها وتعتني بها وبذلت كل مالديها من جهد، حتى توفيت تلك المشردة لتنال راحة أبدية وترحم من ظلمات الأرض لتصعد إلى نور السماء، لتقابل وجه رب كريم، فهو الأقرب والأحن، فأنا اتخيلها الآن وهي تفضفض مع رب السموات والأرض وتشتكي له من ظلم البشر لها، ولا تنسى زهرتها الفواحة التي عطرت أخر لحظات حياتها، بالتأكيد تحكي عن ما فعلته معها من خير، وعن قلبها الحنون، وكأن الله يريد أن ترى"آية" شيئًا جميلًا من الدنيا قبل أن تفارقها.
ازداد حبي لـ زهرة مصر يومًا بعد يوم، وكانت تغمرني اللهفة دائمًا لزيارة تلك المأوى الذي هو أشبه بالقصر، حتى حالفني الحظ وكان لي نصيب أن أرى هذا الجمال، وفي يوم جمعة ذهبت إلى دار سيدات القصر كما يطلقون عليه، ولم يكن هدفي أن أصور وأنفذ عملي فقط، بل كان هدفي الأول أن ألتقي بهؤلاء السيدات الحسنوات، ومنذ دخولي الدار رأيت العديد من النساء تجلس كل منهن على أريكة، فمنذ أن نظرت لهن وما تخيلتهن إلا على أرائك الجنة يتحدثن عن ما جرى لهن في الدنيا ويضحكن ويتمتعن بالنظر إلى الخضرة ويستنشقن هواءً صافيًا بعد غبار الطرقات الذي توغل في أمعائهن.
التقيت سمر نديم للمرة الثانية، يشهد الله كم أحبها قبل أن أراها، تحدثت معها عن مشوارها الخيري، سألتها إذا كانت تشعر بالملل في وقت من الأوقات بسبب تواجدها شبه الدائم في الدار، فأجابتني والابتسامة على وجهها: "كيف لي أن أمل، هم حياتي، وأنا موجودة من أجلهم"، كم هي صبورة حقًا وكأن الله اصطفاها من بين عباده لتكون طوق النجاة لكل هؤلاء السيدات اللآتي لا رفيق لهن في هذا العالم الواسع.
العديد من القصص والعديد من الضحايا من مختلف الجنسيات، فهي لا تفرق بين مشرد مصري أو عربي أو حتى أجنبي، فيوجد لديها العديد من الحالات، منهن من هي من دولة "غانا"، والتي آوتها "سمر" لكي تنضم إلى عائلة دار سيدات القصر، فتعلقت بهن ومن شدة حبها لهن لم ترغب في الذهاب إلى بلدها، والأخرى من كوريا أو الصين فلم تحدد جنسيتها بعد فهي تفقد جزءًا كبيرًا من ذاكرتها وتحويها أيضًا جدران الدار الدافئة، والعديد من المصريات اللآتي تشردن في الشوارع، فمنهن من لا أهل لها، والأخريات تخلى عنهن أهلهن بالدم، لتحتويهم "نديم" بين أحضانها وتكون لهن الرفيقة والأخت وكل ماهو جميل في الحياة، أود لو أنني أذكر أسماءهن جميعًا واتحدث عن قصة كل واحدة منهن، ولكنهم لا يحتاجون مقالًا فقط، بل يحتاجون كتابة رواية كاملة لكي تظل قصصهن تحكى على مر التاريخ.